“كوخ الجبل” .. وتجربة شبابية!!

عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب.
لو كانت الحكومات تحتضن المبادرات وتباركها وتطلق طاقات الشباب، لما وصلنا الى ما وصلنا إليه من بطالة وتراكم الحاجة والعوز وقله الفرص.. ما زلت اعتقد ان حكوماتنا ومن أكثر من أمد طويل مُعطلة للمبادرات ومحترفة للكتابة على الملفات كلمة “للحفظ” او “الاحالة” لمن يبدون رأياً وهم لا يمتلكون قرارا..
استوقفتني في السلط تجربة لافتة وجديدة يمكن الأخذ بها والقياس عليها وتعميمها بأشكال مختلفة، فقد بادر اثنين من الشبان لم يبلغا النصف الثاني من العشرينيات، للتوجه الى سفح الجبل المطل من مدينة السلط على شارع الستين، وعلى امتداد حوالي مائة متر ليحفروا في أعلى الجبل المنحدر بشدة بالفؤوس والطوارئ والايدي حتى يؤسسوا في أعلى السفح مصاطب لا يزيد عرضها عن ثلاثين متراً، و يرصفوا ارضياتها ويبلطوها ويكسوها بالخشب، ويقيموا وسط ذلك كوخا صغيرا يرفرف فوقه العلم الأردني، ويحولوا كل ذلك الى مقهى ومتنزه ساهم الى حد كبير في إعادة صياغه العائلات السلطية المحافظة الباحثة عن متنفس يناسبها في الاحتشام، وقبول العائلات التي تريد الخروج من حصار المنزل.. فقد وصل العمّانيون الى المكان ليحفزوا رغبة السلطيين اصحاب المكان بالحضور، فكانت اللقاءات العائلية، وكانت الاطلالة الجميلة التي وقفت فيها لأرى نابلس والقدس تبرز في النهار الصافي وتتلألأ أضواءها في الليل وكأنها منارات البحر..
المكان لا يعرف حرارة الصيف، ولا تستطيع الجلوس فيه إلا إذا ارتديت اكثر من ملابس الصيف، حيث جهز القائمون على المكان اردية خاصة وسط خدمة مناسبة ومريحة.. فقد حوّل الشابان محمد مسعود ومسعود الرحاحلة المتخرجين للتو من الجامعة في تخصصين مختلفين المكان ليكون وجهة سياحية تكاد تكون الأولى في عموم البلقاء، فجذبوا اليه سياحا واجانب وطواقم بعثات وسفارات وشخصيات عربية واجنبية اضافة الى الاردنيين من كافة محافظات المملكة ..
الشاب محمد مسعود قال لي: “بيدي هذه حفرت ونقلت التراب وبنيت السلاسل، ثم بدأنا لأننا لم نجد أمامنا سوى ان نصنع العمل الذي علينا ان نعمل فيه بانفسنا، لانعدام فرص العمل والوظائف ، لقد بدأنا والآن نحن نشغّل ثلاثين شابا من زملائنا ممن كانوا في الدراسة معنا ولم يجدوا عملا، فهنا مصدر دخلهم الوحيد..”
انظر إليه وأجده مهموما، فأقول: لقد نجحت فلماذا انت مهموم؟ قال: ما زلنا نبحث عن الترخيص الذي يمنعه عنا المسؤولون، واستطرد “دقينا” كل الأبواب وراجعنا وتحدثنا ووسطنا لكن تجاوزت مطالبنا الاذان تحت ذرائع ان الارض مملوكة للاشغال، وهم يرفضون تفويضها لنا او تأجيرها، رغم أننا نقلناها من مكب للنفايات الى اطلالة هي الأجمل في كل المحافظة وجعلنا منها موقعا نابضا بالحياة ومن متنفسا لعائلات السلط ولابناء الوطن.
شكوى محمد اتمنى ان تصل الى كل المسؤولين وان تتجاوزهم بعد ان أصبح السمع ثقيلا والاستجابات بطيئة، ولم يعد أحداً يرد لا بـ “نعم” ولا بـ “لا”..
الاف من الخريجين لا يجدون عملا، وحجم الخريجين يزيد عن(315) الف في العام، والقليل منهم هم من يكسرون الحلقة كمحمد ومسعود، فهم محاصرون بعقليات روتينية جامدة لا تملك رؤية واسعة في استثمار طاقات الشباب واحتضان تطلعاتهم..
كان محمد يتحدث وكانت الشابة النشيطة نور الحياري التي تسوق المكان تكشف عن ابداعات شباب السلط ورغبتهم في المبادرة.. وكنت أحس بالغضب وأسال نفسي.. لماذا لا تفوض الحكومات الاراضي الحكومية في المحافظات العديدة من المملكة للشباب الجامعي بالمنح باو بالاستئجار او الشراكة لبناء مشاريعهم وانفاذ افكارهم وابداعاتهم فيها؟ ولماذا تبقى هذه الاراضي بورا ومعطلة او مكبات للنفايات او اراضي يأكلها العشب البري او تتحول الى مكاره؟.. ولماذا لا تساعد الشباب في المحافظات والالوية على تكوين جمعيات تتشكل من عشرين طالبا وطالبة يجري تخصيص قطعة ارض تسجل باسم جمعيتهم لاستثمارها بمختلف الاشغال وتسحب منهم في حال عدم الاستغلال، وان يجرى تقديم مساعدات لمشاريعهم على قاعدة المتابعة والرقابة؟..
نعم يمكن بناء جمعيات سياحية واخرى صناعية وثالثة زراعية وانخراط الشباب والشابات فيها بدل ان يتركوا للبطالة والبؤس.
ان ما اقدم عليه الشابان من السلط فيه نموذج يمكن تكراره، ولأنهما لم يكونا يملكان المال فقد حفرا الجبل بايديهما وبنوا السلاسل ومهدوا الارض ووضعوا السياج واقاموا كوخا خشبيا يمكن استئجاره بالساعة التي لا تزيد عن عشرة او عشرين دينارا في الساعة لاقامة حفل مغلق او التقاط صورا او لعقد مناسبة او لقاء عائلي..
نموذج “كوخ الجبل” هو نموذج لما اراد الشباب ان يحدثوه لتشغيل انفسهم واعالة عائلاتهم وتوفير اقساط الدراسة، فالطلاب الثلاثين العاملين في الموقع يغطون نفقات دراستهم الجامعية.
لا اعرف لماذا تضع الحكومات العراقيل و تختبئ وراء الاجراءات البيروقراطية والمفتعلة امام هكذا مبادرات؟ ولا اعرف لماذا فشل الكثير ممن تدخلوا لانجاح هذا المشروع الذي ارجو من وزيرة السياحة النشيطة زيارته ومباركته وتكريم الرواد الذين انجزوه، ونقل هذه التجربة وتعميمها، فهناك اماكن كثيرة وجميلة على امتداد المملكة يمكن استغلالها لهذه الاغراض.
بلدنا ليس فقيرا او محدود الموارد إن استغلينا الكامن من مكوناته واطلقنا طاقات شبابه المتطلع لتحقيق ذاته.
لقد استوقفتني فكره “كوخ الجبل” في اعالي السلط لتشكل شاهدا على قدره شبابنا حين يريدون ونموذجا لما يجب ان تهتدي اليه الجهات المسؤولة لتأخذ به في إشراك الشباب في فرص عمل..
وما زلت اذكر زيارة كنا فيها بمعية الملك عبد الله الثاني الى الشوبك قبل عدة سنوات وقد وقفنا على سفح جبل فيها يطل على وادي عربة غربا، ولا اعتقد ان هناك مشهد مثله عرفته في حياتي جمالا وأهلية لأن يكون موقعا سياحيا عالميا مميزا.. يومها قال الملك: “من هنا يمكن ان نطلق سياحة و استثمارات مميزة”. اوصى بذلك وكتب المرافقون الرسميون معه ملاحظاتهم على أوراق وضعوها في جيوبهم و ما زلنا ننتظر.. يومها كان يفتتح مستوصفا بمواصفات عالمية وكان يوجه الى تشغيل البنات وتخصص المشاريع فماذا عملت الحكومات بعد ذلك؟..


 

 

Related posts

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

اتفاقية تعاون أكاديمي بين الأمن العام والجامعة الأردنية وجامعة البلقاء التطبيقية

مدير الأمن العام يقلد الرتب الجديدة لكبار ضباط مديرية الأمن العام