عروبة الإخباري – يبدو أن أسطورة الهيمنة الإسرائيلية على السياسة الأمريكية تحتاج إلى مراجعة، إذ إن الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي المؤهلة لانتخابات الكونغرس تُظهر ضآلة أو تراجع نفوذ أنصار إسرائيل على الناخبين الأمريكيين، لاسيما الديمقراطيين.
ففي الرابع من يونيو/حزيران، أرسلت منظمة Pro-Israel America، وهي لجنة عمل سياسية أطلقها مسؤولون سابقون في لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك)، بريداً إلكترونياً لجمع التبرعات، يحذّر من أن النائبة ألكساندرا أوكاسيو كورتيز (وهي ديمقراطية من ولاية نيويورك)، ولجنة العمل السياسي الاشتراكية الديمقراطية Justice Democrat، أيّدتا المرشح المتمرد جمال بومان، في سباقه الانتخابي ضد النائب الديمقراطي الحالي إليوت إنغل على مقعد الدائرة الانتخابية السادسة عشرة.
وقد جاء في البريد الإلكتروني: “لجنة Justice Democrats -وهي المجموعة المسؤولة عن انتخاب رباعي “السكواد”، من بينهن إلهان عمر، إحدى أشد أعضاء الكونغرس عداءً لإسرائيل- أرسلت بريداً إلكترونياً لجمع التبرعات، روّجت فيه لتأييد ألكساندرا أوكاسيو كورتيز لبومان… إليوت إنغل، وهو أحد أشد أعضاء الكونغرس تأييداً لإسرائيل، ونحن “نحتاج” أن نقاوم”، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
والسكواد (The Squad) هو الاسم غير الرسمي لمجموعة من 4 نساء تم انتخابهن في انتخابات مجلس النواب الأمريكي عام 2018، جميعهن نساء ملونات تحت سن الخمسين، تلقين الدعم من لجنة العمل السياسي للعدالة الديمقراطية، وهن من الجناح اليساري للحزب الديمقراطي.
رغم كل هذه الأموال بومان يفوز على إنغل الذي أيّد قانون تجريم مقاطعة إسرائيل
برغم جمع أكثر من 125 ألف دولار لصالح حملة إنغل -أكثر من أي إسهام فردي قدمته أي هيئة أخرى لصالح حملات إعادة انتخاب كبير الديمقراطيين في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب- هزم بومان إنغل، في مفاجأة مذهلة، ليزيحه بعد ثلاثة عقود قضاها في هذا المجلس.
أنفقت منظمة “أغلبية ديمقراطية من أجل إسرائيل”، وهي لجنة عمل سياسية أخرى مرتبطة بـأيباك، مليوني دولار لمساعدة إنغل في الحفاظ على مقعده في المجلس. وبعض من هذه التمويلات (100 ألف دولار) وصلت إلى منظمة “أغلبية ديمقراطية من أجل إسرائيل” عن طريق لجنة عمل سياسي كبيرة تابعة للحزب الجمهوري تسمى Tomorrow’s Future، فضلاً عن أن بعضاً من مانحي هذه اللجنة قدموا إسهامات لصالح حملة دونالد ترامب.
أنفقت لجنة عمل سياسية أخرى مؤيدة لإسرائيل من صقور الولايات المتحدة، وتسمى NORPAC، أكثر من 600 ألف دولار لصالح إنغل.
ونظراً إلى أنه رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي، ويحظى بتأييد رئيس مجلس النواب نانسي بيلوسي وزعيم الأقلية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، فإن هزيمة إيغل أمام بومان، وهو مدير مدرسة أسود في حي ذا برونكس الفقير، تمثل نصراً هائلاً للحركة التقدمية داخل الحزب الديمقراطي في العموم، وضربة للسياسات المؤيدة لإسرائيل بلا حساب على وجه الخصوص.
لم يقتصر الأمر على معارضة إنغل الاتفاق النووي مع إيران الذي توصلت إليه إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، بل امتد إلى دعم القرار المثير للجدل بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس وشارك في رعاية قانون مكافحة مقاطعة إسرائيل، الذي ارتأى الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية أنه ينتهك التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة.
على الجانب الآخر، تحدث بومان بوضوح عن الحاجة إلى أن يكون للفلسطينيين نفس حقوق “الحرية والكرامة” التي يتمتع بها اليهود، وعبّر عن رغبته في جعل المساعدات العسكرية إلى إسرائيل مشروطة، وبرغم معارضته حركة المقاطعة والعقوبات وسحب الاستثمارات ضد إسرائيل، أصرّ على أن الدستور يكفل للأمريكيين الحق في المضي قدماً في هذه المساعي.
قال بن شوكي، رئيس لجنة NORPAC، في حديثه مع موقع Huffington Post في هذا الوقت: “إذا استطاع أعضاء السكواد استمالة عضو مثل إنغل، سوف يصبحن جريئات للغاية. وسوف يتسببن في ذعر داخل الحزب الديمقراطي”.
وقد ثبتت صحة هذا الذعر مع الفوز في الانتخابات التمهيدية، الذي حققته أوكاسيو كورتيز ورشيدة طليب (ديمقراطية عن ولاية ميشيغان) وإلهان عمر (ديمقراطية عن ولاية مينيسوتا) -اللواتي هزمن جميعاً منافسيهن الوسطيين في الانتخابات التمهيدية هزيمة حاسمة- وكوري بوش، الناشطة في حركة حياة السود مهمة التي تؤيد صراحة حقوق الفلسطينيين، والتي هزمت الديمقراطي لاسي كلاي، عضو الكونغرس عن مدينة سانت لويس، في مفاجأة كبيرة في 5 أغسطس/آب.
جميع هؤلاء الساسة من النساء ينتقدن صراحة سياسات إسرائيل، وجميعهن باستثناء ألكساندرا أوكاسيو كورتيز عبرن عن تأييدهن حركة المقاطعة والعقوبات وسحب الاستثمارات.
ومن ثم فإن جماعات الصقور المؤيدة لإسرائيل التي أغدقت ملايين الدولارات على السباقات الانتخابية الديمقراطية هذا العام، أخفقت بدرجة كبيرة في تحقيق العائد من وراء استثماراتها.
حتى مؤيدو إسرائيل أصبحوا يرفضون تمويل أمريكا للاستيطان
لا تمثل هذه الخسائر مجرد ضربة لسياسات الصقور المؤيدين لإسرائيل، بل تمثل كذلك إشارة على أن التعبير عن دعم حقوق الإنسان للفلسطينيين والضغط لتغيير السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل -بما في ذلك جعل المساعدات مشروطة بل ودعم المقاطعة- لم تعد تشكل عيباً أو عائقاً بالنسبة للمرشحين.
على سبيل المثال، جميع المرشحين الذين يتنافسون الآن لشغل منصب رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب ذات النفوذ بدلاً من إيغل، بمن فيهم الديمقراطي براد شيرمان (عن ولاية كاليفورنيا) الذي يؤيد إسرائيل بقوة، أشاروا إلى أن المساعدات الأمريكية لإسرائيل لا يجب استخدامها عن طريق إسرائيل لتنفيذ خطط ضم أي أجزاء من الضفة الغربية.
من المعروف أن التوافق مع أيباك كان يُنظر إليه على أنه سياسات جيدة، بل وسياسات لا جدال فيها، إذ إن أغلب المرشحين كانوا يتبعون بكل بساطة نقاط الحديث التي ترددها أيباك حول إسرائيل بدون كثير من التفكير.
وعندما كانوا لا يفعلون ذلك، كانوا يُهمَّشون أو تتم شيطنتهم، بل وبعضهم دُمرت مسيرته المهنية. غير أن هذا لم يعد يحدث كثيراً بعد الآن. اتضح هذا عندما صوت تقريباً جميع أعضاء مجلس الشيوخ المتنافسين على الترشيحات الديمقراطية لرئاسة الأقلية، ضد قانون مكافحة مقاطعة إسرائيل الذي دفعت به أيباك في 2019، وكذلك عندما قرر عديدون، من بينهم السيناتور إليزابيث وارن، والسيناتور بيرني ساندرز، والنائب الديمقراطي جوليان كاسترو، تفويت مؤتمر السياسة السنوي لأيباك.
سر تراجع نفوذ أنصار إسرائيل على الناخبين الأمريكيين
وكلما يزيد عدد الساسة التقدميين الذين يدافعون صراحة عن فكرة جعل المساعدات إلى إسرائيل مشروطة بعودتها إلى مسار حل الدولتين وإيقاف انتهاكها حقوق الإنسان للفلسطينيين –وأبرزهم السيناتور ساندرز– يتجرأ هؤلاء للابتعاد عن معقل أيباك.
وبالفعل، أنفقت منظمة أغلبية ديمقراطية من أجل إسرائيل 800 ألف دولار على الإعلانات التي تهاجم ساندرز قبل المؤتمر الحزبي لولاية أيوا في فبراير/شباط.
برغم أن الإعلانات نفسها لم تتركز على إسرائيل، بل حول الحالة الصحية لساندرز، جعلت دوافعها في معارضة ساندرز واضحة من خلال تصريحات حول نوابه، الذين ادعت منظمة أغلبية ديمقراطية من أجل إسرائيل أنهم “يكرهون إسرائيل ويدعمون حملة المقاطعة والعقوبات وسحب الاستثمارات، والذين أدلوا أكثر من مرة بتصريحات معادية للسامية”.
إلهان عمر تحصل على دعم من ممولين أكثر عدداً من منافسها بشكل لافت
ولكن حتى الآن، برزت أوضح جهودُ استعراض العضلات في تأييد إسرائيل، خلال جولة الانتخابات التمهيدية لإلهان عمر، في الأسبوع الماضي، التي خاضتها ضد أنطون ميلتون مو، وهو محامٍ ظهر من العدم، واعتمد جانب كبير من حملته على شن هجوم ضد إلهان بسبب سجلها المتعلق بموقفها من إسرائيل، بينما هو نفسه أكثر انسجاماً مع موقف بايدن المعارض لحملة المقاطعة والعقوبات وسحب الاستثمارات، وضد وضع أي شروط على المساعدات الأمريكية، أو ممارسة أي ضغط على إسرائيل.
كان ميلتون مو –أحد كبار المستفيدين من تبرعات الحملات الانتخابية القادمة من الجماعات المحافظة وجماعات الصقور المؤيدة لإسرائيل ولا يسبقه إلا بايدن وإنغل- متأخراً في التمويل حتى قدوم الربع الثاني من عام 2020، عندما جمع 3.2 مليون دولار، وحوالي نصف مليون منها جاءت من لجنة NORPAC ومنظمة Pro-Israel America.
جمعت إلهان عمر 470 ألف دولار خلال نفس المدة -وكلاهما جمع أكثر من 4 ملايين دولار في المجمل خلال الدورة الانتخابية- لكن الاختلاف الرئيسي بينهما يكمن في أن متوسط التبرعات لحملة إلهان كان 18 دولاراً، بينما بلغ متوسط التبرعات لميلتون مو أكثر من 600 دولار، ما يجعلها واحدة من الانتخابات التمهيدية الأغلى في التاريخ، بحسب فريق الاتصالات الخاص بإلهان. أنفق ميلتون مو والجماعات المستقلة التي تؤيده أكثر من 6 ملايين دولار لهزيمة إلهان، ونصف هذا المبلغ جاء من لجان العمل السياسي المؤيدة لإسرائيل، ومن بينها دفعت NORPAC و Pro-Israel America أكثر من 400 ألف دولار، بينما دفعت لجنة Americans for Tomorrow’s Future مليونين ونصف المليون دولار في الإعلانات.
يتعلق أحد الأسباب المحتملة لفشل هذه الجماعات بعدم امتلاكها جمهوراً لسياساتها المعروفة حول إسرائيل في هذه الدوائر الانتخابية، إذ إن إسرائيل لا تظهر بوضوح في حملات هؤلاء الديمقراطيين التقدميين والديمقراطيات التقدميات.
على سبيل المثال، تناولت حملة إلهان ضد ميلتون مو تحديات الوسطيين التي تعترض طريق التقدميين والتقدميات، وهي الرعاية الصحية، والتغير المناخي، والضرائب، والإسكان.
وحتى هؤلاء الذين صوّتوا لصالح مليتون مو، لم يفعلوا هذا بسبب معارضتهم آراء إلهان حول القضايا الفلسطينية الإسرائيلية، أو اتهامها بمعاداة السامية، بل لأنهم لا يؤيدون مساعي مبادرة Medicare for All (الرعاية الصحية للجميع)، وGreen New Deal (الصفقة الخضراء الجديدة)، وضريبة الثروة.
برغم أن إسرائيل لا تمثل قضية رئيسية عندما يذهب المصوتون الأمريكيون اليهود إلى صناديق الاقتراع (بل تدور القضايا الرئيسية حول الرعاية الصحية وعنف الأسلحة النارية)، راهنت لجان العمل السياسي المؤيدة لإسرائيل والمتبرعون من الأفراد على جعل إسرائيل قضية مثيرة للجدل… وفشلوا في هذه المساعي.