السلطة الفلسطينية والضائقة المالية / علي بدوان

للشهر الثالث على التوالي، تعاني السلطة الوطنية الفلسطينية من ضائقة مالية، باتت وكأنها مستحكمة، حيث تم صرف 50% فقط من قيمة الرواتب لكل المعتمدين من الموظفين والعاملين والمتقاعدين فيها، في الداخل والشتات، وهو ما أعطى انعكاساته الصعبة على حياة الناس الاقتصادية المعيشية، في ظل وجود حالة مستشرية من البطالة مع توقف العديد من الأعمال، العامة، والفردية، نتيجة انتشار جائحة (كورورنا ــ كوفيد 19) التي يبدو وكأنها ما زالت تنتشر وتتحوّل عموديا، في مناطق فلسطين 1967، وداخل مناطق العام 1948 “إسرائيل”. حيث يتم كل يوم تسجيل إصابات جديدة في صفوف الناس، فيما يذهب جزء من ميزانية السلطة الوطنية الفلسطينية، ومعها الجزء المخصص من ميزانية وكالة الأونروا لمكافحة هذا الوباء، بينما تتمتع دولة الاحتلال الإسرائيلي بوضعٍ مالي أفضل يُمكّنها من التعويض على الناس لقاء توقف أعمالهم، وتجهيز بنية تحتية في المشافي خاصة بجائحة كورونا أفضل مما هو موجود في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية.
ومما “زاد الطين بلة” على حد تعبير المثل المتداول في بلاد الشام، فإن تحكّم سلطات الاحتلال الإسرائيلي بأموال “المقاصة”، وهي الأموال المجباة، والناتجة، لقاء الضرائب المدفوعة عن البضائع المتدفقة لأراضي السلطة الوطنية الفلسطينية، قد زاد من مستويات الأزمة الاقتصادية. فسلطات الاحتلال تتحكّم بتلك الأموال، وفق اتفاق باريس الاقتصادي المُجحف الموقع بين السلطة الفلسطينية والطرف “الإسرائيلي” عام 1994، وتتحكم بصرفها للسلطة الوطنية الفلسطينية، أو إيقاف الصرف كليا، أو جزئيا، تبعا للموقف السياسي وتطوراته، وهو ما يحصل الآن، مع رفض السلطة الوطنية الفلسطينية لمشروع “الضم الإسرائيلي” ولــ”صفقة القرن” المقدمة أميركيا بالتوافق مع الطرف “الإسرائيلي”.
إن قيمة موازنة السلطة الفلسطينية السنوية تبلغ حوالي أربعة مليارات دولار أميركي، يتم توفيرها من الإيرادات التي تستقبلها من أموال المقاصة (الجمارك والضرائب)، وتأتي الإسهامات المالية للدول المانحة للسلطة الوطنية الفلسطينية، وخصوصا دول الاتحاد الأوروبي واليابان، وبعض الدول العربية الخليجية، كإسهامات مهمة وضرورية ومؤثرة، لجهة الاستمرار في تأمين التدفق المالي للسلطة الفلسطينية، ولعموم مؤسساتها الخدمية، ومختلف الوزارات، ولتأمين قسط من الرواتب حتى لو كان بنسبة الــ50% كما يتم الآن منذ ثلاثة أشهر، وذلك لتأمين الحد الأدنى من شروط الحياة المعيشية للناس في فلسطين في ظل الضائقة المالية الراهنة.
وفي هذا المجال، إن العديد من الجهات “الإسرائيلية”، وخصوصا منها قوى اليمين واليمين المتطرف، ترى، وتُبشّر، وهي “ترقص فرحا وطربا”، بأن حالة “الشح” المالي، التي تسود أوضاع السلطة الوطنية الفلسطينية، قد تؤدي لانهيارها وتفككها العاجل، وتفكك الحركة الوطنية الفلسطينية بشكل عام، مُعتقدة بأن لا حلفاء لفلسطين وشعبها، وأن الدول العربية، وخصوصا الخليجية قد تخلّت عن القضية الفلسطينية. وبالطبع، فهي واهمة في هذا الأمر، لأن الشعب الفلسطيني له من الحلفاء على امتداد جبهة عريضة متسعة، وقادر دوما على تحمّل الصعاب والظروف القاسية، بما فيها حالة “الشح والجفاف المالي” وتجربته عميقة في هذا الميدان، ففي أواخر ثمانينيات القرن الماضي وقبل انطلاقة الانتفاضة الكبرى الأولى مرَّت على الحالة الفلسطينية ظروف مالية صعبة جدا، انتهت مع انطلاقة الانتفاضة الكبرى الأولى في تشرين الثاني/نوفمبر 1987، والتي دخلت إلى كل بيت في العالم بأسره، وأعادت وضع القضية الفلسطينية على أجندة المجتمع الدولي.
إن الشعب الفلسطيني في الداخل المحتل عام 1948، وفي مناطق العام 1967، في الضفة الغربية بما فيها القدس، وقطاع غزة، يخوض معركة الوجود ضد الاحتلال الإسرائيلي بكل الأشكال والأساليب المُمكنة والمتوافرة، وهو صامد على ترابه أرض وطنه. ولن تهزمه لا (جائحة كورونا ـــ كوفيد 19) الفتاكة، ولا الضائقة المالية، والحصار المالي الذي تقوده دوله الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة، التي أوقفت مساهماتها المالية في الميزانية العامة لوكالة الأونروا. فقد سبق وأن مرَّت منظمة التحرير الفلسطينية وعموم الحركة الوطنية الفلسطينية بأزمات مالية صعبة، كان منها أزمة نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وإلى حين اندلاع الانتفاضة الكبرى الأولى في تشرين الثاني/نوفمبر 1987 والتي أعادت قلب كل المعطيات السائدة في حينها.
وعليه، إن الأزمات الراهنة التي تُعبّر عن حالها في فلسطين بالضائقة الاقتصادية والمعيشية، في ظل وجود جائحة (كورونا ــ كوفيد 19)، لن تدفع بالفلسطينيين إلى حافة اليأس، ولن تنهار حركتهم الوطنية، وعلى الاحتلال الإسرائيلي أن يعيد التفكير بكل سياساته، فقد انتهى زمن المعازل والبانتوستانات، وانتهى زمن تطويع الشعوب واستغلال أزماتها وتجويعها.

Related posts

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري