عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب.
حاولت الاتصال بمكتب الرئيس محمود عباس للتهنئة بالعيد أكثر من مرة، وفي كل مرة كان مرافقه يقول إنه في صلاة، وانتظرت وقد جاء الاتصال بي لأكون مع الرئيس في حديث بدأته “بتقبل الله ” ثم قلت بعد كليشة العيد المألوفة والاطمئنان عن الصحة، ما الذي يواجهك من تحديات الآن سيادة الرئيس، خاصة وأن هدوءاً قد يسبق العاصفة يفرض نفسه بعد موجه قوية من قبول التحدي لم يبطئها إلا التجميد الاسرائيلي لمشروع الضم وانتظار الانتخابات الاميركية..
قال الرئيس عباس: نواجه عدوّين.. والصفة هنا من استعماله وأنا شخصيا أحب هذه الصفة أن تطلق على من يحتل الأرض ويقتلع المواطنين ويسجنهم ويقتلهم في فلسطين، وما زلت أذكر قبل سنوات أننا مُنعنا في كتابتنا في الرأي من استعمال كلمة “عدو” خاصة بعد توقيع اتفاق السلام (معاهدة وادي عربة)، وأنني حين استعملت كلمة (عدو) بعد أن قامت اسرائيل بقصف مقراً للأطفال وقتلهم في جنوب لبنان “مجزرة قانا” ، احتج على ذلك سفير اسرائيل في الأردن آنذاك “الدكتور شمعون شامير” وكتب لوزارة الخارجية ، فرد عليه وزير الخارجية آنذاك عبد الكريم الكباريتي، بأن ردّ عليه بمقالة ضد مقالته، ولكن شمعون لم يرد ورغب أن يجلس معي فوافقت شريطة أن يكون ذلك في مكان عام، وكان اللقاء في المقهى (اللوبي) في “فندق فورتي جراند” الاسم الذي تحول إلى “فندق الميريديان” لاحقا، وقد جلسنا وكان يتكلم العربية بطلاقة، فهو متخصص فيها ، وقال: لا أريد أن أناقشك فيما كتبت فأنا أعرف مكونات الوجدان العربي الذي لم تستطع حدود “سايكس بيكو” أن تقسمه وإن قسمت الأرض والدول، فذُهلت من قوله وصمت، وقلت: إذن.. قال: دعنا نتكلم في أي أمر آخر ، هل تريد أن نتكلم في التراث العربي، وماذا تفضل ، فقلت: أنا متخصص في شعر أبي تمام العباسي، فابتسم وقال: دعني أقرأ لك شيئا منه، وانتهت الجلسة بعد مساجلات، لكنه لم يتحدث أبداً عن استعمالي لكلمة “عدو”، واعتبر ذلك طبيعيا من جانبي ولكنه كان أراد أن يبدي رأيه أمام الخارجية الأردنية ، وهو ما تمليه عليه وظيفته..
أعود إلى استعمال الرئيس أبو مازن صفة العدو التي كررها لجهتين هما اسرائيل التي ما زالت تفرض احتلالها وتمارس عدوانها ضد الشعب الفلسطيني ، وتشكل تهديدا عدوانيا خطيرا على المنطقة كلها ليس الآن وإنما قبل بيان البندقية في الثمانينيات حين اعتبر ذلك البيان الأوروبي اسرائيل خطرا على المنطقة والعالم.. وهو ما أغفله العرب بعد ذلك وذهبوا إلى “مغارة الضبع” بأرجلهم ليجدوا أنفسهم في داخلها دون أن يقووا على الحراك..
صفة العدو الأخرى أطلقها الرئيس على جائحة الكورونا التي تفاقمت أثارها في فلسطين، بفعل التصدير الاسرائيلي الزائد لها عبر المنافذ التي تربط الضفة الغربية من خلال البوابات في الخط الأخضر، حيث يسعى العمال للبحث عن لقمة عيش في مغامرات ما زالت قائمة حين يحتسبون أن الموت من الجوع والحاجة يناظر الموت من الكورونا، فاختار بعضهم ان يقاتل الجوع على حساب مواجهة الكورونا مما جعل أعباء السلطة في دفع بلاء الجائحة يزداد..
السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس عباس فوتت وما زالت تفوت على سلطات الاحتلال الكثير من المخططات المبيتة التي يبحث نتنياهو و(حزبه ومؤيدوه ومن يقف خلفه من تحالف دولي) عن مبررات لينفذ منها إلى عدوان أوسع يستهدف اقتلاع المواطنين الفلسطينيين الذي يمثل صمودهم على أرضهم أبرز أشكال المقاومة..
إذن عدوّان ذكرهما الرئيس وكررهما الاحتلال الاسرائيلي بشكله المتجدد والخطير والذي يتطلع إلى ما وراء النهر لتحقيق الحلم الصهيوني في اسرائيل الكبرى، وعدو آخر هو الكورونا الذي يهاجم العالم والشعب الفلسطيني الذي يعاني وطأة الاحتلال..
هناك مقاومة للعدوّين وهي مقاومة تتسع، فالفلسطينييون يتصدون للعدو الأول بصمودهم ومقاومتهم الشعبية الباسلة، ودبلوماسية مؤثرة في المجتمع الدولي أظهرت الوجه البشع لاسرائيل واحتلالها، وجندت مواقف دولية جديدة إلى جانب الحق الفلسطيني الواضح ، وهذه الحرب الدبلوماسية والسياسية أزعجت وما زالت تزعج اسرائيل أكثر من أي أشكال أخرى، ولذا تعمل اسرائيل وحليفتها الإدارة الأميركية الترامبية من أجل أن يعاود الفلسطينيون مع الاسرائيليين مفاوضات عقيمة تفاوض فيها اسرائيل نفسها، وذلك من أجل التقاط صور ونشر أخبار أن لا داعي للمجتمع الدولي في إدانة اسرائيل وعدوانها طالما أن الفلسطينيين يفاوضونها..
هذا الأمر كسر الرئيس أبو مازن حلقته المفرغة حين وضع رجليه على الحائط رافضا التفاوض العقيم ، ورافضا الوساطة الاميركية ومواقفها التي هي أكثر عدوانية ضد الشعب الفلسطيني حتى من اسرائيل .. وبقي الرئيس صامدا على موقفه يواجه اسرائيل ويخذّل الموقف الاقليمي وبعض العربي الضاغط عليه، إذ أن اسرائيل تصدر ضغطها على الرئيس عباس عبر قنوات عربية سواء من خلال الضغط المباشر أو غير المباشر الذي يعلن عنه من خلال تجديد موجات التطبيع الدنيء.. أو محاولة تخصيب قيادات فلسطينية بديلة يجري زراعتها في أصص وقوارير كما نباتات الشرفات التي لا جذور لها في الأرض..
نعم أطراف اقليمية ما زال أبو مازن يصمت عن ذكرها مباشرة في أحيان عديدة ويكتفي بالقول ..( الله يهديهم) وهو في حالة حنق ويرد احيانا بخطوات دبلوماسية هادئة وفاعلة..
كالموقف الذي عبر عنه للرئيس رجب طيب اردوغان بعد خطوة تحويل “ايا صوفيا” الى مسجد والدوافع معروفة، لأن تركيا في حالة اشتباك مع هذه الأطراف التي تتورط في معادات السلطة الفلسطينية والتدخل في شؤونها!!!
الشعب الفلسطيني بقيادته الواعية الآن والتي حاولت وما زالت أطراف عربية تصدير الأزمة اليها عبر محاولات صناعة محاور داخلية في القيادة الفلسطينية التي شبت عن الطوق، وخبرت مثل تلك المحاولات واجهضتها برص الصف والعمل على تصفية الخلافات الداخلية، فقد أطلق الرئيس أبو مازن مرة أخرى محاولة مخلصة لردم الانقسام الفلسطيني الذي تستثمر فيه أطراف عربية ممثلة لأطراف اقليمية ودولية وجعل اللواء جبريل الرجوب يتولى هذا الملف حيث حدثت اختراقات قد لا تكون كافية، ولكنها تؤسس لنهج وتوجهات جديدة، فقد يجد الفلسطينيون العلاج لانقسامهم في جيوبهم بدل البحث عن علاجات غير ناجعة لداء الانقسام الذي استفحل وتأخر علاجه ،حيث ترهن إسرائيل العلاج و تصب الزيت على نار الانقسام كلما خف اشتعاله وبأيدي عربية أيضا وأموال تتدفق عبر قنواتها ومعرفتها واشرافها…
إذ يهم إسرائيل إستمرار الانقسام وتعطيه الأولوية على أي موضوع آخر حتى لو كان استيراد صواريخ.. لأنها تدرك ان الانقسام هو العقبة الأساس أمام قدرة الشعب الفلسطيني على كفاح فاعل يدحر الإحتلال..
بعض الأنظمة العربية تشكل إضافة سلبية للنضال الفلسطيني وتساعد اسرائيل على اجهاضه، وقد بدا ذلك مكشوفا وان لم يتحدث عنه الرئيس عباس لأسباب عديدة… ولكن ذلك أدركته قيادته والتي عبرت عن امتعاضها من ذلك وفي أكثر من مناسبة ولقاء…
حديثي على الهاتف مع الرئيس عباس لم يكن طويلاً بل لدقائق، لكني استطعت ان استشف الكثير من مواقفه وصموده وإصراره ورهانه على صمود شعبه، وارادته والتزامه بثوابت القضية الفلسطينية، واستمرار مد اليد لكل الأطراف الداخلية والخارجية التي يمكنها ان تقصر عمر الإحتلال أو تزعزعه إلى أن تكون تصفيته التامة واقامة الدولة الفلسطينية العتيدة المستهدفة بصفقة القرن و بمشروع الضم الإسرائيلي…
يبدو لي أن بياتا صيفيا سيصيب الحالة الفلسطينية حتى موعد الإنتخابات الأمريكية وإعلان نتائجها، إلا إذا وقعت مفاجأت من حكومة اليمين الإسرائيلية في ربع الساعة الأخير لفرض وقائع جديدة على الأرض، إن أدركت أن التأييد الأمريكي لإسرائيل والموصوف أنه “بلا حدود”، يمكن ان يتعثر عن تأييد صفقة القرن وخطة الضم اذا لم ينجح الرئيس ترامب….
والسؤال هل تقوم إسرائيل بضربة عدوانية استباقية خلال الشهرين القادمين ام تنتظر؟ وإذا كانت ستقوم بضربة استباقية فهل المطلوب مواجهتها كما يؤمن الرئيس عباس بكل الوسائل، ام الانحناء لها و تقديم المزيد من الفواتير لصالح احتلالها، كما ترى بعض الأطراف العربية المرتجفة التي تقدم نصائح مسمومة للرئيس بأن يشتبك مع إسرائيل في مفاوضات تحمل نفس المواصفات لمفاوضاتها السابقة….
ما زال الرئيس عباس يرد بلطف النصائح العربية المقدمة له بضغط من اسرائيل، ومازال يشرح الحال، فهو ليس ضد مبدأ المفاوضات، ولكنه يريد لها مضمونا ويريد وعداً امريكياً واضحاً بإلغاء صفقة القرن، وعدم تمكين إسرائيل من الضم كمقدمة لازالة الاحتلال وتحقيق الدولة الفلسطينية المستقلة…
لقد خبِر الرئيس عباس وعبر سنوات طويلة طبيعة بعض النصائح العربية الملغومة او المسممه وكان لديه القدرة على ميزها وقبول سواها من تلك التي يمكن ان تمر بسلام…
وهو لا يريد لأي طرف عربي أن يستر عورته في التعامل مع إسرائيل بقميص القضية الفلسطينية، فلم يعد هذا القميص يغطي عورة أحد منذ استرجعه أصحابه ومنعوا إعادة تداوله…
وهذا ما جعل بعض الأطراف العربية المتعاملة مع الإحتلال عبر التطبيع تظهر عورتها بوصول طائراتها إلى مطار “بن غوريون” او بالادعاءات في ذلك مساعدة للشعب الفلسطيني وهي المساعدات الكاذبه التي تكشفت حقيقتها حين رفضتها القيادة الفلسطينية وحذرت منها ودعت أن تؤتى البيوت من أبوابها وأن لا تدخل إلا بعد استئذان أهلها…
أنهيت مكالمتي مع الرئيس عباس بأن أخبرته بصدور كتابي عن الراحل الكبير الشهيد ياسر عرفات والذي استغرقني أكثر من عام حاولت فيه أن أسرد سيرة الرئيس عرفات من خلال متواليات الصراع الفلسطيني من أجل القضية وضد الإحتلال ، ووعدت أن أضع الكتاب بين يديه بدل زوال عدوان الكورونا الذي أغلق الحدود!!!