يحتدم النقاش الاقتصادي حول السياسات الاقتصادية الأنسب لمرحلة ما بعد كورونا. ومع انتقال الآثار الاقتصادية للوباء من مساحات التوقع، إلى التحقق، بدأ البحث عن مزيج أدوات السياسة الاقتصادية المناسبة. وهذه ربما تمثل للباحث فرصة التعرف على طبيعة العلاقة بين الشق الموضوعي والوصفي للاقتصاد (Positive)، والشق المتعلق بتطوير الخيارات (Normative).
الأثر المزدوج للوباء والذي كبح كل من العرض والطلب على المستوى العالمي، يفرض مراجعة حاسمة للخيارات السياسية. فلا يمكن مواجهة الوباء بأدوات مالية فقط للتكيف مع نتائجه، كما لا يمكن الاعتماد على الأدوات النقدية للتصدي لحالة الاحباط العميقة التي تضرب الأسواق، دون تهديد جدي لموقع وفاعلية المنظومات النقدية. كما أن «الخط الفاصل بين المالي والنقدي يفقد وضوحه» على حد تعبير بنك التسويات العالمي، حيث تتحول الادوات النقدية، إلى امتداد للادوات المالية.
هذا الالتباس، يدفع عدد متزايد من الاقتصاديين، على حد تعبير مجلة الأيكونوميست في مسحها الأخير لخيارات السياسات الاقتصادية، للتشكيك «بقدرة الادوات التقليدية للسياسات الاقتصادية»، والتفكير «بإصلاحات بنيوية»، من خارج صندوق الادوات التقليدية للسياسات الاقتصادية. فالمحفزات النقدية، حسب دراسة حديثة لجامعة برنستون، لم تعد وسيلة مأمونة لتحفيز الطلب، بسبب فاعليتها بتعزيز «عدم المساواة»، التي تمتص الطلب وتحبط فاعلية أدوات تحفيزه التقليدية.
طيف البحث خارج صندوق الادوات التقليدية، وصل لسوق العمل، وأبرزها منجز جامعة هارفارد التي ترى الحل برفع نسبة الاجور من الناتج الاجمالي. حيث ما تزال النظرية الاقتصادية متمسكة بأن الاجور هي واحدة من أهم محفزات الطلب (وبالتالي النمو)، وإن رافقها التضخم. فهناك معدلات للتضخم، ما تزال محتملة، إذا بقيت مترابطة ومتزامنة مع معدلات تشغيل عالية (معدلات بطالة منخفضة). إلا أن هناك مزيدا من المخاوف بأن الزيادة الأسمية للاجور، وبمعدلات اعلى من معدلات زيادة الانتاجية، سيكون لها أثر شبيه بالمحفزات التي قادت إلى الكساد التضخمي في بدايات السبعينيات. فزيادة نسبة الاجور من الناتج القومي الإجمالي، بمعدل اعلى من معدلات النمو، وصفة نموذجية لزيادة البطالة والكساد التضخمي، وتقليل فاعلية الادوات النقدية. وهذا يعني أن الزيادة الاسمية للأجور، دون أن تنعكس على «قدرتها الشرائية»، لن تؤدي إلى أي تغير حقيقي في معادلة توزيع الموارد، ولها آثار سلبية كبيرة.
ويستمر الحوار (حول ادوات السياسة الاقتصادية في مرحل ما بعد الوباء) متصاعداً، متجنباً العودة إلى المربع الأول، وذلك بتناول زيادة الانتاجية، وتحسين المستوى النوعي للمنتجات والخدمات، بما يمكن من رفع القدرات التنافسية للالتحاق بالسوق العالمي.
وهذا يعني، أن الادوات الجديدة للسياسة الاقتصادية، تنطلق من تحديد مهمات اقتصادية جديدة للدولة. وهي مرتبة من حيث سرعة تأثيرها: أولاً: التمسك بتطوير وفرض المعايير (المواصفات والمقاييس والمستوى النوعي) على السلع والخدمات، ثانياً: التعليم والتدريب، لتطوير خطوط الانتاج وزيادة الانتاجية حتى وإن أدت لصدمات مؤقتة (يمكن امتصاصها) لسوق العمل، والثالث، ربط السياسات النقدية والمخفزات النقدية (كما المحفزات المالية) بأولويات استثمار قطاعية محددة. وهذا يعني تصور جديد لربط أسعار الفائدة، كما معدلات الضريبة (بقطاعات اقتصادية محددة). فالوباء يفرض سلم أولويات قطاعية جديدة.
ربط معدلات الفائدة (المحفزات النقدية)، والمحفزات الضريبية بالقطاعات الاستثمارية، ضرورة لتمكين السياسات الاقتصادية من قيادة الخروج الآمن للسوق من مأزق الوباء المثلث (تزامن التحول التقني، وانخفاض معدلات كل من العرض والطلب)، ومنع إغلاقه على السوق . صحيح ان التكيف «التطور الهيكلي للاقتصاد» استحقاق موضوعي وسوف يفرض نفسه، ولكن تدخل الدولة لتحفيز هذا التطور وقيادته (ضرورة) لتقليل كلفه الاجتماعية، وضمان تحققه بشكل سلمي وآمن.