بعد ماراثون طويل وشاق في مفاوضات سد النهضة منذ إعلان المبادئ في الخرطوم بتاريخ الـ٢٣ من مارس ٢٠١٥م وحتى اليوم لم تظهر أية آفاق إيجابية لحل هذه الأزمة، ولم تتوصل مفاوضات العام الماضي إلى اتفاق لحل نقاط الاختلاف بين الدول الثلاث، فالطرف الأول مصر والسودان دولتا المصب تحصلان على (٧٤) مليار متر مكعب من المياه، منها ٥٥.٥ مليار متر مكعب تصب في مصر سنويا، و١٨.٥ مليار متر مكعب للسودان، والطرف الآخر إثيوبيا بلد المنبع والتي استكملت بناء ٧٥% من سد النهضة على النيل الأزرق بالقرب من الحدود مع السودان، والسد يعتبر أكبر مشروع كهرومائي في القارة الإفريقية؛ لذا يتوقع أن يؤثر بشكل كبير على حصص مياه النيل لدولتي المصب، وخصوصا على مصر، فهو يؤثر على حياة أكثر من ١٠٠ مليون مصري يمثل لهم نهر النيل مصدر الحياة، وارتبطت به ثقافتهم وعلاقتهم طوال التاريخ. وسعت الدول الثلاث من خلال مشاورات ومفاوضات واجتماعات سابقه إلى إيجاد حلول مناسبة ترضي مختلف الأطراف في تحديد قواعد ملء السد والتشغيل مع الأخذ بالاعتبار حالة الجفاف في دورة مياه النيل، وتعتبر مسألة الملء والتشغيل هي أبرز النقاط الخلافية في هذه الأزمة، فمصر تنظر بشكل إيجابي إلى سد النهضة بما يخدم مصالح الشعب الإثيوبي رغم أن إنشاءه لم يأخذ بالاعتبار موافقتها والسودان. والآن بعد أن أصبح واقعا تقبلت الأمر على أنه مشروع كبير يعزز اقتصاد إثيوبيا، ويسهم في توفير الطاقة الكهربائية لدول الجوار أيضا، ولكن ليس على حساب مصالحها والإضرار بحياة شعبها القائمة على نهر النيل. ويتوقع الخبراء أن تتأثر حصص مصر من المياه بشكل يؤدي إلى فقدان مئات الآلاف من الأفدنة الزراعية، إضافة إلى تأثيرات متعددة الجوانب تمس حياة الشعب والإنتاج الزراعي والدخل القومي بل تمس السيادة المصرية أيضا .
هناك اتفاقيات تاريخية أبرمت في عام ١٩٢٩ وعام ١٩٥٩م حيث تم التوقيع على عدم إقامة أية مشاريع مائية على منابع نهر النيل دون الرجوع إلى دولة المصب مصر، كما حددت تلك الاتفاقيات حصص مصر والسودان من المياه، وينبغي الإشارة هنا إلى أن السعة الاستيعابية لسد النهضة من المياه (٧٤) مليار متر مكعب، وهي تساوي مجموع ما تحصل عليه مصر والسودان طوال عام كامل، وهذا يعني أن هناك مشكلة كبرى ستواجه دولتي المصب وبالذات مصر في حال عدم التوصل إلى اتفاق لتحديد قواعد ملء وتشغيل السد بما لا يضر بالأمن القومي لمصر والسودان، وكانت أديس أبابا أعلنت أنها بصدد البدء في ملء السد في مطلع يوليو المقبل في سباق مع الزمن لفرض الأمر الواقع بشكل أحادي الجانب وفقا لما أعلنه المتحدث الرسمي بالإنابة للخارجية الإثيوبية لوكالة الأنباء الرسمية مؤكدا أن خطة بدء ملء السد في موسم الأمطار المقبل هو جزء من خطة البناء دون الحاجة أن تعلم مصر والسودان بذلك، وكانت الأطراف الثلاثة قد توصلتا إلى اتفاق متوازن برعاية أميركية وبحضور البنك الدولي في فبراير الماضي يضمن حقوق مختلف الأطراف وعدم الإضرار بها، إلا أن الطرف الإثيوبي تخلف عن توقيع الاتفاق في اللحظة الأخيرة فوقعت عليه مصر بالأحرف الأولى، مما جعل أزمة سد النهضة تتفاعل وتتصاعد خلال الأشهر الماضية، وقد أصدرت جامعة الدول العربية بيانا في اجتماعها قبل شهرين تقريبا رفض المساس بحقوق مصر التاريخية من مياه النيل، هذا البيان قابله رفضا إثيوبيا وتأكيدا بأن سد النهضة يبنى بمال إثيوبي وعلى أراضٍ إثيوبية في إشارة إلى عدم قبول أي تدخل خارجي في هذا المشروع الاستراتيجي الحيوي، وأنها ماضية في استكمال بناء السد حسب خطته الإنشائية، وسيكون بداية الملء في يوليو المقبل وذلك قبل الانتهاء من استكماله على أن يتم الملء خلال (٣) سنوات فقط دونما مراعاة لما يحدثه من إضرار على دولتي المصب، وخصوصا مصر التي تعاني من نقص حاد للمياه في بعض السنوات بسبب حالة الجفاف التي تحدث في مياه النيل حتى أن السد العالي في مصر يقل فيه منسوب المياه في تلك السنوات، فكيف سيكون الوضع في حال نفذت إثيوبيا خطتها في ملء السد في ظرف ثلاث سنوات وذلك بدءا من يوليو المقبل؟!
اتفاقيتا ١٩٢٩، ١٩٥٩م أقرتا عدم القيام بأية إنشاءات في منابع السد دون الرجوع للقاهرة كما أسلفنا، ولكن إثيوبيا بدأت العمل ببناء السد في يناير ٢٠١١م وقت انشغال مصر بثورة يناير ٢٠١١م، كما أن المادة الخامسة من اتفاقية المبادئ عام ٢٠١٥م تنص على عدم بدء ملء السد قبل الاتفاق على قواعد الملء والتشغيل بين الدول الثلاث، إضافة إلى أن الاجتماعات المنعقدة في ٢٠١٩م والتي استكملت في واشنطن بوساطة البنك الدولي الذي يحمل رصيدا من الخبرة الميدانية في مشاريع السدود حول العالم وذلك وفقا للمادة العاشرة من اتفاق إعلان المبادئ، للأسف تخلفت إثيوبيا عن التوقيع على الاتفاق الذي يعتبر متوازنا ويحفظ حقوق مختلف الأطراف، مما فسره المراقبون استهلاكا للوقت من جانب إثيوبيا من أجل استكمال بناء السد وفرض الأمر الواقع في ترتيبات الملء والتشغيل بشكل أحادي، وهو ما وضع مصر على المحك فعليا وفي ظرف زمني حاد يضعها في خيارات صعبة. وهنا يرى بعض المراقبين أن مصر قد تلجأ للخيار العسكري قبل بدء عملية ملء السد نظرا لما يمثله هذا الملف من خطورة كبرى على أمنها القومي عموما، ومؤخرا بادرت مصر ممثلة في وزير خارجيتها بمخاطبة رئاسة مجلس الأمن حول مستجدات سد النهضة، كما أجرى الوزير سامح شكري اتصالات بعدد من الدول الأعضاء في مجلس الأمن يطلعهم على تطورات هذا الملف، لذا يعتبر بعض المراقبين أن إخطار القاهرة لرئاسة مجلس الأمن والدول الأعضاء فيه إبراء للذمة إذا ما حدث أي تصعيد أو لجأت القاهرة إلى الخيار العسكري من أجل الحفاظ على مصالحها الحيوية وعدم المس بحياة مواطنيها .
ملف سد النهضة المتأزم حاليا يتطلب تدخل حكماء إفريقيا ومنظمة الاتحاد الإفريقي وبعض القيادات الإفريقية التي تحتفظ بعلاقات متوازنة مع الطرفين المصري والإثيوبي وذلك حفاظا على الأمن والاستقرار في المنطقة وذلك في ظرف زمني بالغ الأهمية، وعدم قدرة القارة على تحمل توترات إضافية جديدة، وكانت أصوات خرجت من إثيوبيا تتحدث عن أن أي خيار عسكري يتعرض له مشروعها القومي المائي سيقابل بالمثل، ما يمثل ردا استباقيا لأي خيار عسكري قد تلوح به القاهرة، إلا أن هذه التصعيدات لا تخدم أي طرف وخصوصا إثيوبيا الطرف المعني بالأزمة والقادر على إنهائها بالحكمة التي عرفت بها هذه الامبراطورية التاريخية، وهنا يتطلب أخذ مخاوف الجانب المصري بعين الاعتبار وتمديد فترة ملء وتشغيل السد حسب الاتفاق الذي تبلور في واشنطن برعاية الولايات المتحدة، وبعيدا عن هذا التصعيد الخطير الذي قد يضع القارة الإفريقية والمنطقة على حد خطير .
اليوم بات من الضرورة على قيادات إفريقيا الحكيمة التدخل الإيجابي والمشرف لاحتواء هذه الأزمة قبل تفاقمها إلى الحد الذي يصعب معالجتها والذي سيكلف الجميع خسائر فادحة، ولا نشك في قدرة القارة الإفريقية التي تملك رصيدا من التعاون والتنسيق عبر منظمة الاتحاد الإفريقي للعمل على معالجة هذا الملف دون الإضرار بمختلف الأطراف، ولا شك أن القيادة الإثيوبية أيضا حريصة على أمن واستقرار المنطقة، وتملك من الحكمة ما يضعها أمام مسؤوليتها التاريخية والآمال معلقة على أديس أبابا والقاهرة ومختلف العواصم الإفريقية في تجاوز هذه الأزمة وإيجاد مخرج آمن يطفئ شرارتها .