استيعاب الآثار الاقتصادية لكورونا / جـمـال الـطـاهـات

التركيز على تخفيف آثار الوباء، وتجاهل ضرورة استيعاب هذه الآثار بخطط متوسطة المدى، فيه الكثير من المغالطات المنطقية. وفي قصص كليلة ودمنة، توضيح لركني الخديعة المركبة على نقص المعلومات. الأول تضخيم الأزمة، وتعميق شعور المخدوع بالرغبة بالخروج منها. ومن ثم إغراقه (بعد ربطه بهدف الخروج من مأزقه) بتفاصيل الطريق، حتى لا يتنبه إلى مخاطر المكان الذي ستأخذه الخديعة إليه، أو أن ينشغل بتفاصيل وصور المكان الموعود، فتغيب عنه مخاطر الطريق. وفي كل الأحوال، فإن الخطة الاقتصادية التي تنطلق من تضخيم هدف (تخفيف آثار الوباء)، وتغفل في ذات الوقت المسارات والأدوات، أو توضيح النتائج بشكل قابل للقياس، (أياً كانت دوافع وأسباب النقص فيها) هي خطط خادعة، ومضللة.
منطق النمو في الاقتصاد والذي يهيمن على الفكر الاقتصادي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، استند على النموذج الاقتصادي القائل بأن: “الإنفاق على المشروعات العامة سَيُسْفر عن موجة رخاء تراكمية”. وبالرغم من ثبوت صحة هذا التصور، لكن إملاءات الوباء، ألغت بشكل حاسم الإجابات التقليدية (القديمة) حول الأسئلة المتعلقة بفعل “الانفاق”. من سينفق؟ كيف سينفق؟ من أين المال الذي سيتم انفاقه؟ وما هي قنوات توجيه هذا الانفاق إلى السوق المحلية؟
إذ أن فكرة النمو، كما تبلورت في النظرية الاقتصادية، بطيفها الواسع، قائمة على أساس: “أن التغيرات في الانتاج” -وليس النقود- “هي مفتاح استرداد التوازن الاقتصادي، وإطلاق عجلة النمو”. فالنقود وسيلة ورافعة لإحداث التغيير في الانتاج، وضخها لا يحقق النمو بشكل تلقائي، لأن المعضلة هي تعطل ماكينة الانتاج، التي تعيق توظيف النقود بشكل صحيح. ولا فائدة من النقود التي لا يمكن توظيفها لتطوير عجلة الانتاج. فالنقود، من حيث هي مخزن للقيمة الاقتصادية، ومصدر للقيمة الاجتماعية، تتعرض “خطط توظيفها” للكثير من الممارسات الفاسدة، والتي تأخذها إلى “مسارات” بعيدة عن انفاذ دورها في تطوير عجلة النتاج.
شرط الخروج من مأزق المغالطات المركبة على سياسات “تخفيف آثار الوباء”، هو في القناعة بأن كرورنا يفرض سياقات جديدة على النشاط الاقتصادي محلياً وإقليمياً وعالمياً. والمطلوب خطط اقتصادية متكاملة تنطلق من فهم وتصور للسياقت الجديدة التي ستفرض نفسها على الاقتصاد الأردني. فهناك مربع متكامل (بأربع خطوط) يوضح السياق الوطني للسياسات الاقتصادية، ويحدد ملامح وخطوط هذا السياق بمساحة الوطن. أفضل وسيلة لتحديد السياقات بالمساحات حتى نعيد التأكيد على أن السياقات ليست مسارات، بل مساحات يمكن للعديد من الخيارات، أن تبقى في السياق الوطني حتى لو اختلفت فيها المسارات.
الضلع الأول هو الخط الواصل بين مصدر النقود ومن سيحصل عليها. وهذا مهمة تحتكرها الحكومة. هل تستطيع الحكومة التي لا “تنتج النقود” بطباعتها (مثل الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والصين)، تأمين المتطلبات المالية للخروج من الأزمة؟ وما هو دورها البديل، حتى تبقى حكومة تقود وتوجه النشاط الاقتصادي؟
الضلع الثاني، هو الخط الواصل بين برامج الاقتصاد الكلي، والنشاط الاقتصادي على المستوى الجزئي، او السياسات القطاعية. بقاء السياسات الاقتصادية تتشكل على المستوى الكلي، ثم يشتق منها سياسات قطاعية، هذه مغالطة منطقية في علم الاقتصاد، وخديعة لصناعة القرار الوطني تحتوي كليلة ودمنة على الكثير مما يشبهها. كما أنه، في ظل تدني مستوى القيمة المضافة، في العديد من القطاعات، بما فيها الزراعة والإنشاءات، هناك حاجة لربط قياس أثر الإجراءات الاقتصادية، بتقييم موضوعي للمضاعف الاقتصادي، للأموال المستثمرة في تنمية القطاعات المختلفة، وفي فاعلية الإجراءات في تعزيز القيمة الوطنية المضافة، لرفع المضاعف.
أهمية هذا الضلع، في تحديد السياق الوطني للسياسات الاقتصادية، جاءت مؤخراً في حديث جلالة الملك عبد الثاني مؤخراً، حول تأكيده على أولوية تنشيط الانتاج الزراعي. حيث تمثل هذه الاولوية تحدياً جديداً وواضحاً لصناع السياسات والخطط الاقتصادية. فإذا بقيت قواعد الانتاج التي تحكم القطاع الزراعي كما هي، فلن يتطور القطاع لا كمياً ولا نوعياً. ومهمة صناع السياسات ومصمميها، تعزيز صانع القرار بتوسيع طيف البدائل والخيارات المتاحة أمامه. إذ أن اللغة التعبيرية عن الخطط الاقتصادية، مهما كانت جميلة ورنانة، لا تخفي حقيقة ومضمون الإصرار على محاصرة صانع القرار بالخيارات والبدائل القديمة.
الضلع الثالث هو الخط الذي يربط الاقتصاد الوطني بالإقليم والعالم. الوباء يغير قواعد التعامل في التجارة الدولية، ويفرض على الجميع تطوير قواعد جديدة لإدارة سلاسل التزويد على المستويين الإقليمي والعالمي. ولما كان النشطاء الاقتصاديين، لا يستطيعون العمل في معزل عن العالم الخارجي (استيراداً وتصديراً)، فإن المطلوب تصورات جديدة لتنظيم علاقة المنتجين الأردنيين مع السوق بمنظور جديد. احتكار الدولة لتنظيم العلاقة بين المحلي والخارجي، يفرض على مصممي السياسات الاقتصادية الانتباه لأولوية تطوير ادوات وقواعد ممارسة هذه المهمة. مصممي السياسة الاقتصادية، مؤتمنون، ليس على الوطن، “بل على السبل المتاحة” أمام قيادته، على حد تعبير كينز.
الضلع الرابع الذي يستكمل المربع، هو ما يعيد ربط النقود بمن يوظفها (العلاقة بين الادخار والاستثمار)، عبر البنوك. ما تزال السياسات النقدية غير قادرة على تقديم إجابات حول طبيعة المنتجات البنكية، ومدى انسجام هذه المنتجات مع الأهداف الوطنية العامة للسياسة الاقتصادية. البنوك استثمار، يجب أن يربح، وهي ليست مؤسسات خيرية، ولا يمكن إدارتها بمنطق الريع. ولكن تفعيل الدور الكلاسيكي للبنوك كمحرك للنشاط الاقتصادي بركنيه (الانتاج والاستهلاك)، ضرورة حتى يتشكل السياق الوطني للسياسات الاقتصادية. ففي ظل زيادة الودائع عن مجمل الناتج المحلي الإجمالي، وفي ظل وجود نسبة كبيرة من هذه الودائع للمغتربين، فإن قدرة السياسة النقدية على تفعيل دور البنوك (عبر منتجات بنكية جديدة وواضحة) ضرورة مركزية، حتى تتشكل مساحة واضحة للسياق الاقتصادي الوطني.
فحتى لا تكون سياساتنا الاقتصادية، والخطاب الجميل الذي يحملها، تكراراً لما حذرت منه قصص كليلة ودمنة منذ مئات السنين، ليس مطلوباً منا اختراع العجلة، ولكن تقديم تصور واضح، ينطلق من الميزة الأهم لعلم الاقتصاد، أنه لا يكتسب قيمته إلا في سياق محدد. تحديد هذا السياق ضمن المساحة الوطنية، ضرورة لا تغني عنها، التعبيرات التقنية، التي تعيد ارتكاب خطأ التعامل مع الوقائع الاقتصادية منزوعة من سياقها.

شاهد أيضاً

إلى سيدنا…. اليوبيل الفضي* بقلم لين عطيات

عروبة الإخباري – لا يمكن للكلمات أن تُغنى  فهناك من يسّل سيفه حين نُغني … …