لابد في البداية ان نعبر نحن كأردنيين عن تقديرنا الكبير لجهود الدولة وعلى رأسها الملك عبدالله الثاني، وإداراتها المختلفة وخاصة القوات المسلحة والأجهزة الطبية والأمنية والحكومة وكافة المسؤولين ،على حسن ادارة التعامل مع الوباء منذ اليوم الاول لاندلاعه. اذ اخذته الدولة مأخذا جاداً وراحت تتحرك في اجراءات عملية واحترازية في الاتجاه الصحيح. وعملت في نفس الوقت على تنمية امكانات المواجهة والفحص حتى تراجع معدل انتشار الوباء لدينا لنكون من الدول السبع الافضل في العالم. وهو امر نرجو له الاستمرار، رغم المشقة النفسية والعملية، والإشكالات الادارية والصعوبة المعيشية التي ادت اليها اجراءات مواجهة الوباء، فأحكمت الدولة السيطرة .وكان احد اعمدة النجاح يتمثل في عدم الاستخفاف بالوباء وعدم التهوين من شأنه ونتائجه.
ومن الجانب الآخر، فلعل واحداً من اهم الاسباب التي ادت إلى سرعة انتشار الوباء في أوروبا والولايات المتحدة الامريكية وغيرها، تلك الاستهانة التي قوبل بها الوباء في البداية، ومرور بضعة اسابيع على إعلان ووهان مدينة موبوءة قبل ان تأخذ تلك الدول اجراءات حقيقيّة تنطلق من محاصرة المرض أولاً والمعالجة ثانياً. ومرت ايام تنقل خلالها عشرات الملايين من المسافرين عبر العالم، بعضهم كان في الصين، والبعض الاخر خالط المصابين دون ان يدري،وغير ذلك من اسباب انتشار المرض في أوروبا وأمريكا، بما في ذلك مستوى المناعة لدى كبار السن، وعامل السمنة المرتفع وخاصة في امريكا، وطبيعة المفردات الغذائية وتركيزها على اللحوم والبروتينات الاخرى في تلك البلدان.
في مثل هذه الظروف المباغتة في انتشار مرض بهذه السرعة، وما تأتى عنه من توقف سريع لأهم النشاطات في القرن الحادي والعشرين وهي مرافق الإنتاج ثم مرافق النقل من سيارات وشاحنات وطائرات وقطارات و بواخر ، وإغلاق الحدود، انطلق العديد من الكتاب والمثقفين والمفكرين في وضع تصورات للكورونا وما بعد الكورونا، وراح البعض يصور الكورونا وكأنها زلزال أو تسونامي يحطم العالم القائم ويترك الارض خرابا يباباً… ويفك الدول و يسقطها، ويدمر الاقتصادات، ويفقر الشعوب، ويعيدها إلى نقطة الصفر من البؤس والجوع والشقاء. وكأن العالم، “حسب تصورهم”، مصنوع من الورق، ما أن تهب عليه ريح عاتية حتى يتطاير في الهواء، ابتداء من أمريكا وانتهاءً بجزر “القيمقطو” (جزر وهمية). هذا التهويل غير المبرر و غير العلمي في حجم الوباء وآثاره ونتائجه يعود إلى أسباب كثيرة، أولاً: ان انتشار المعلومات والأرقام بسرعة كبيرة و ساعة بساعة ، ووسائل التواصل الاجتماعي اعطت الانطباع بضخامة مبالغ في حجمها ومبالغ في تأثيرها. ثانياً: ان البعض يهمل او يتجاهل الجهود والإمكانات العلمية والتكنولوجية التي يبذلها عشرات الآلاف من العلماء والمهندسين والأطباء و الشركات و المختبرات للتغلب على هذا الوباء. ثالثا: ان البعض يفترض ان هذا الوباء لا يشبه اي كارثة سابقة حلت بالإنسانية في الماضي البعيد والقريب. فضحايا تسونامي المحيط الهندي عام 2004 تجاوزوا 228 ألف إنسان، وضحايا الحرب العالمية الثانية 71 مليون إنسان ومئات الآلاف من القرى والمدن المدمرة بالكامل، والانفلونزا الاسبانية التهمت 50 مليون عام 1920، والحرب العالمية الاولى قتلت 50 مليون، والطاعون في اوروبا عام 1850 كانت ضحاياه 12 مليون وطاعون لندن عام 1665 أمات 75 ألف نسمة وغير ذلك الكثير. ومع هذا لم تنقرض الحضارات، ولا انهارت الدول بما فيها الصغيرة ،ولا توقف الناس عن الانتاج والتقدم والتطوير، بل استمرت الثورات الصناعية و العلمية و التكنولوجية دون توقف، على الرغم من أن إمكانات الماضي العلمية والطبية والتكنولوجية واللوجستية تكاد لا تساوي 1% من الامكانات الحاضرة. خامساً: ان الحرص على حياة الانسان اليوم والحرص على الاقتصاد ومسؤولية الدولة تجاه كل ذلك هو الذي يعطي لأرقام الكورونا وقعاً عالمياً و إنسانيا عاليا.
لقد طرح الكثير من الكتّاب السؤال القدري التشاؤمي التالي: هل سيكون العالم بعد الكورونا كما كان قبله؟ وأجاب الكثيرون لا لن يكون، واسترسل البعض هل ستكون أمريكا بعد الكورونا كما كانت قبله وأجابوا لا. وهل ستكون روسيا والصين والهند والشرق الأوسط والأردن بعد الكورونا كما كانت قبله؟ واجابوا لا!
إن القراءة السلبية لعبارة “لا”، و هو ما يقصدون، تعني ان الدمار والإفلاس والانهيار سوف يعم الكثير من الدول، ويجعلها تموت وتضمحل، لتظهر دول لا يعرف احداً اصولها وفصولها. وهذا بطبيعة الحال وهم وخيالات تشاؤمية تقوم على إهمال وتجاهل قدرة الإنسان على المقاومة و البناء ،وإمكانات المجتمع على الإستجابة للتحديات، و مرونته للتكيّف و النهوض. و هم يخلطون بين المال والبورصة من جهة، والاقتصاد والمصنع والحقل من جهة اخرى. فبعد 20 سنة من تدمير المانيا و فقدانها 15 مليون إنسان، عادت لتظهر قوة اقتصادية وعلمية عالمية متميزة. وبعد 30 سنة من تدمير فيتنام و حرقها عادت لتظهر كواحدة من النمور الآسيوية .وحتى رواندا الدولة الإفريقية البسيطة والتي خسرت في الحروب الاهلية مليون إنسان عادت فشقت طريقها للتعافي بسرعة ،وغير ذلك الكثير. الأوبئة صعبة و قاسية، ولكنها لا تدمر الدول ولا تلغي العقول ولا تمنع الابداع ولا توقف الادارة إلا اذا غابت الارادة.
اما القراءة الايجابية لعبارة: “لا لن يعود العالم ولا الاردن كما كان قبل الكورونا” فنحن نفهمها أولا ان الجميع سوف يتعلم الدرس و يأخذ الإحتياطات اللازمة لاحتمالات ظهور مفاجىء لأوبئة غير معروفة. ثانيا أن الإنفاق على الأبحاث و التكنولوجيات الطبية و الدوائية و المناعية و الجينية ستصبح مصلحة دولية و وطنية مشتركة. ثالثا أن الإعتماد الذاتي على حدود مقبولة من الإكتفاء الذاتي في إنتاج الغذاء و الدواء و المعدات ستصبح من الأستراتيجيات الثابتة للدول. رابعا أن التوسع في الروبوطية في مواقع الإنتاج، و العمل عن بعد، وإعادة تصميم الأماكن المزدحمة، و التجديد في أنماط النقل سيكون ظاهرة عالمية مما يعطي الأهمية للهندسة و البرمجيات و الإبداع الوطني.
و نحن في الأردن ، أولا مستفيدين من الدروس العالمية. ثانيا سنكون أشد إصرارا على النجاح من خلال العمل المشترك ،بعد أن ثبت للجميع ان شفافية الحكومة ومصداقيتها تمنحها ثقة الجمهور، وأن حزم الادارة (دون محاباة) للمصلحة العامة يتقبلها الجميع وأن فرض النظام وحكم القانون بدون استثناء يتجاوب معه الجميع. ثالثا أن التشارك والتكامل في العمل بين جميع الاطراف يؤدي إلى نتائج مميزة. رابعا ان استغلال الامكانات البشرية الوطنية المتاحة من علم وعمل وإبداع في الطب والصناعة والزراعة والبرمجيات و الهندسة و الزراعة والنقل من شأن ذلك ان يعطي نتائج باهرة. خامسا إن دعوة الاردنيين للتبرع من اجل وطنهم والمساهمة في تحمل العبء يقبله الاردنيون طالما شعروا بالثقة والصدق.سادسا أن الإنتاج الصناعي و الزراعي الأردني في كافة محافظات المملكة هو القاطرة لكل عمل . سابعا أن تطوير التعليم باتجاه التعليم الإلكتروني و التكنولوجي و المرتبط بالإنتاج أصبح ضرورة بقاء.
هذا ما نتوقع ان يكون عليه الأردن بعد الكورونا: بلد متماسك يعمل ويعتمد على نفسه ويتحمل المشقة ويتقاسم الأعباء، ولكنه ينظر إلى المستقبل بكل ثقة غير عابىء بأوهام التهويل ولا سذاجة التهوين.