عروبة الإخباري- كتب سلطان الحطاب
في مقابلته الأخيرة.. يمضي الرفاعي لدوره ويرفض أن يضع رأسه في الرمل، او يمارس موقف “حط راسك بين رؤوس رؤساء الوزراء وقول يصطفلوا”، بل أخذ على عاتقه مسؤولية النقد الحريص والبعد عن التجريح في المصلحة العامة..
لم ينصرف لشانه الخاص كما البعض، ولا لإحصاء أرباحه من خسائره حين تعطلت العديد من المصالح التي يشارك فيها الكبار بصورة مباشرة او غير مباشرة..
لقد لاحظت لو أن غير الرفاعي فتح فمه بنقد وحتى بتسبيح علني لانهالت عليه ألسنة الكثيرين، ووضعت غسيله على الحبال، لكن جرأة الرجل تقوم من انه صان بيته حتى لو ألقيت عليه الحجارة.
أتحدى أن يمارس مثله بعض المسؤولين الذين يأخذون الآن إجازة ويغيبون عن المصلحة الوطنية، ويلتفتون شمالاً ويميناً حتى اذا خلا لهم جو الصالونات المحكمة الإغلاق سلقوا الجميع بألسنة غلاظ شداد، لكنهم لا يريدون احداً أن ينقل عنهم أو يكرر ما قاله خارج هذه الغرف، فإن ثبت للجميع أنهم قالوا سارعوا الى النفي ، خشية أن تتضرر مصالحهم..
طابور المسؤولين الكبار يخرجون في موسم القمرة والربيع، يتبخترون بانجازاتهم التي لم نلمسها، وبمواقفهم التي لم نشهدها، وحين يتوجع الوطن أو يواجه ما يواجهه الآن يختبئون اختباء “أهل الكهف”، حتى إذا ما جاء الفرج وانتهت الأزمة كانوا من السباقين في إدعاء الحكمة بأثر رجعي..
أشعر أن من واجبي أن أثنى على الرئيس سمير الرفاعي ليس لمضمون ما قال فقط، وهو ما أتفق معه عليه، وإنما لمجرد المبدأ في أن يخرج وينقد وبحس المسؤولية الوطنية، في حين أن ولاة الأمور السابقين وخبراء الحكم والسياسة ومعرفة من أين تؤكل الكتف يختبئون وينتظرون الآخرين أن يقولوا نيابة عنهم وكأنهم غير معنيين..
لقد جلس أكثرهم في مقعد المتفرجين، رأينا مثلهم في أزمات سريعة سابقة، وها نحن نراهم وقد حشروا أنفسهم وعقولهم وآرائهم في منازل محصنة، بعضها أشبه بمصانع المواد الغذائية وخلية نحل الخدمات..
لماذا يتحدث الرفاعي وينقد الأداء العام والحكومي؟ ما دوافعه لذلك؟ ولماذا يعتقد ان صفحاته نظيفة وان رصيده من الثقة لدى الناس ورأس الدولة يكفي له أن يقول وحتى مع احتساب الخطوط الحمراء في ما يقول فانه يمضي..
ليست هذه المرة الأولى التي (يبق) الرفاعي فيها البحصة، فقد قال واشبع قولا، حين كان عبد الله النسور في السلطة رئيسا للوزراء، فلم يخش الرفاعي رغم أن النسور يأخذ الاشياء بجريرة بعضها، لكنه لم يستطع ان يلفق له شيئا وإن كان يتمنى ذلك..
يظهر الرفاعي كنجمة وحيدة من بين رؤساء الوزارات، وحتى أكون منصفا، هناك أصوات هامة لا تقل جرأة عنه، لكنها لم تكن في موقع رئيس الوزراء قد أعطت رأيها وأدلت بدلوها ليحاكمها الناس بعد ذلك على ما تقول..
أين هم أصحاب الألسنة الحادة الذين غالبا ما يُصب نقدهم على الاشخاص وليس الأعمال، فينالون من الشخصية ويبرعون في اغتيالها ، وهذا ما لا يأخذ به الرفاعي حين يتحدث عن حرب الإبادة على الطبقة الوسطى المتبقية، إن بقي الاسلوب القائم الآن على ما هو عليه.. ويريد ان يعاد ترتيب الاولويات فالأقرب ثم الاقرب، وبعد ذلك الأبعد فالأبعد ، وهنا يشير الى ان الامور الاستراتيجية البعيدة كالمديونية ومعالجاتها والتخطيط البعيد المدى او حتى المتوسط وكل ذلك يمكن تأجيله لصالح الواجب اليومي في ضمان دوران عجلة الانتاج..
فهو يرى انه لا يجوز ان نزيح كل النار على قرص الكورونا لينضج أو يشفى او نحاصر هذا الوباء تماما وان كان ذلك واجبا، لكن ليس على حساب سحب اللحاف لتغطية الرأس و كشف الأرجل او تعرية مناطق الاقتصاد الحساسة بإسم الحرص على الاحتواء.
كان الرفاعي منصفا مدح اجراءات الوقاية والاحتواء، وأشار الى ذلك مباشرة، ولكنه ذكّر الذين غادروا الاقتصاد الى احتواء الكورونا بأن ما يفعلوه قد يشبه النزول عن “جبل أحد” في يوم احد.
فالاقتصاد الوطني قبل الكورونا، كان يشكو فقر الدم وكان هشا وكان بحاجة الى مزيد من العناية والاسناد ، ولذا فان استمرار تمريضه والعناية به يعادل او يجب ان يعادل ما جرى انجازه على صعيد منهج احتواء الكورونا، فإن كان لدينا يدين اثنتين فيجب استعمالهما واحدة هنا وواحدة هناك وان لا نعمل بيد واحدة.
قراءة الرئيس الرفاعي للمشهد في اعتقادي دقيقة وحريصة ومباشرة وغير متأخرة، وذات طابع اجتهادي، فهو لا يريد الانتظار حتى الوصول الى عمق الازمة ثم بعد ذلك يدّعي الحكمة بأثر رجعي كما أدمن البعض من الذين يتأخر الافتاء عندهم الى أن يسووا مصالحهم.
حين عاد الرفاعى الى البلد بعد الإغلاق ، استبقته الاشاعات والهجوم من بعض الاطراف، وكأنهم كانوا يعلمون انه يحمل عيونا مفتوحة، ولساناً رطبا يمكن تحريكه، و أنه سيأخذ موقعه على منصة الشاهد الذي لا يسكت عن خطأ، حتى وان كان ذلك بأسلوب الاجتهاد مهما كانت نسبة الصواب.
نحن بحاجة الى مثل مواقف الرئيس الرفاعي والى ان تتذكر الشخصيات العامة التي استثمر فيها الوطن كثيرا وأسلمها زمام الأمر، في فترات عديدة قيادته، ان يخرجوا ويتحدثوا و يقولوا شيئا نافعاً وإلا عليهم ان يستمروا في تأبيد صمتهم.
نريد الذين كانوا يملأون الساحات لإشعال الافراح بالخطب والتزويج طلبا وعطاء ان يظهروا ليقولوا شيئا في حق هذا الوطن، الذي تحمّل فترات حكمهم، وان يضعوا كتفا الى جانب اكتاف الاردنيين جميعا، ولا نريدهم ان يكتفوا بإرسال برقيات التهنئة والتأييد والهتاف..
فهذا ليس دورهم وإنما دورهم أكبر من ذلك، ولا يجوز ان يستمروا في الأخذ بنظرية “تحيد عن ظهري بسيطة” أو “ما دخلني لاني لست في السلطة، و حين أكون في السلطة أتكلم”.
لا تضعوا العبء الوطني كله على بعض الصحفيين والمفكرين والحراكيين الذين عذبتموهم حين كانوا ينقدونكم، فالوطن بحاجة الى الجميع وعليكم ان تكونوا أكبر من ظلكم، فالهامش يسمح بالنقد إن كان لديكم ما تقولون ليس في اداء الحكومة التي نجحت في معظم واجباتها، وإنما في طرح افكار وخطط ريادية ورؤية منقذة. ألستم من كنتم في السدة والمقدمة وزعمتم انكم من أنقذ وعمل وأبدع؟! فلماذا حين تكونوا في السلطة تكونوا طواويس، وحين تغادرونها لا نجد لكم أثرا..
أنا لا أقصد الجميع ولكن البعض من المسؤولين الذين لا يعنيهم الأمر.. وقد يبررون ذلك بأن النقد غير مسموح لهم، لأنه ربما يجري اصطيادهم إن فعلوا والرد عليهم يكون بنموذج الرفاعي الذي كان في نفس الموقع، ولكنه لم يصمت ولم يهادن ولم يبخل ان يقدم رأيه القابل للنقد أيضا..
صحيح اننا لا نريد عشرات الطباخين ان يدخلوا الى المطبخ ليشعطوا الطبخة او يفسدوها، فهذا لم ندعو إليه، وربما هذا الذي ينتظره البعض منهم ولكننا ندعو إثراء المسيرة بالأفكار وتقديم النصح لصاحب الولاية واستبدال وذلك بدل الاشاعة والتسريبات..
واذا كان المال عزيزا عند البعض فلتكن الكلمة الطيبة والفكرة المثمرة.
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
رغم أن خيلكم عديد ومالكم وفير وانشغالكم بذلك الهاكم على الصلاة للوطن والمبادرات في سبيله، والله من وراء القصد، حتى لا يُقال أننا مع الصامتين.