تبقى القدس، حاضرة غائبة، حاضرة لأن لا أحد ينساها، وغائبة لأن الشعوب العربية تنشغل بمصيبة وباء كورونا، وأثرها الصحي والاقتصادي.
في القدس، تبدو القصة أكثر تعقيدا، الحرم القدسي مغلق، بسبب الوباء، فلا صلاة في المسجد الأقصى، ولا قبة الصخرة، ورمضان يطل علينا، حيث الحرم القدسي كل رمضان، كان يشهد تجمع مئات الآلاف في صلاة الجمعة، أو التراويح، أو خلال موائد الإفطار بشكل جماعي، لكنها مشاهد سوف تغيب هذا العام، بسبب تفشي الوباء، خصوصا في مدينة القدس، وما حولها.
كل التقارير تتحدث عن وضع اقتصادي مأساوي، إذ قبل الوباء، كان خمسة وسبعون بالمائة من سكان القدس يعانون من الفقر، وحين يعيش في القدس وما حولها، أكثر من ثلاثمائة وستين ألف شخص، يعانون اليوم اقتصاديا، وبشدة، بسبب الحظر الكلي، وتوقف الأعمال، إضافة إلى توقف النشاط التجاري في البلدة القديمة، وغير ذلك، نكون أمام مشهد في غاية الصعوبة، له ارتدادات سياسية، كون المدينة تحت الاحتلال، أساسا، وإسرائيل ذاتها، تريد إضعاف الفلسطينيين في المدينة المحتلة، على كل المستويات.
هناك جهود فلسطينية تحاول التخفيف عن أهل القدس، مثل الجهود التي يبذلها التجمع المقدسي لمواجهة كورونا الذي يضم إحدى وثمانين مؤسسة مختلفة، تقدم جهودا طبية وإنسانية مختلفة، إضافة الى المنصة الإلكترونية الخدماتية “مدد” التي طورها صندوق ووقفية القدس كمنصة تكافل اجتماعي، حيث تقدم المنصة خدمات مجانية للمقدسيين كتوفير المواد الغذائية والخدمات الإغاثية والأدوية والاستشارات الطبية، بالإضافة إلى خدمة التوصيل المجاني، مع المحافظة على سرية بيانات الطالبين، كما وفرت رقم طوارئ يستقبل احتياجات المقدسيين 14 ساعة يوميا.
كل هذه الجهود طيبة، وحسنة، إلا أنها إطفائية وغير كافية أبدا، وعلينا أن نقرأ بشكل دقيق، الكلفة السياسية والاقتصادية داخل المدينة، وعلى المقدسيين عموما، الذين يجابهون ظرفا أخطر من الاحتلال، أي شل الحياة العامة، كليا، بسبب الوباء، إضافة إلى السياسات الإسرائيلية التي كانت ترهق المدينة وأهلها، بسبب الضرائب، والإغلاقات، والملاحقات، وقلة الأجور، وغير ذلك، من إجراءات تصل حد السجن، وسرقة الأرض، وهدم البيوت.
هذا يعني أن السوار الاجتماعي الذي يحمي الحرم القدسي، ويكرس هوية المدينة العربية، سوار مهدد بكل قوة هذه الأيام، وكأن الوباء هنا، ينفذ مهمة خطيرة جدا نيابة عن إسرائيل، توقع الأذى بهؤلاء، تحت عنوان صحي، فوق ما هم فيه أساسا من ظروف صعبة، يعيشونها منذ عقود.
هذا الوضع بحاجة إلى تدخل من نوع آخر، على المستوى الفلسطيني والعربي والإسلامي، إذ لا يعقل أن يتم ترك القدس، وسكانها لهذا الوضع الخطير الذي يضاعف من كلفة الاحتلال، في ظل ظروف اقتصادية صعبة ستؤدي إلى مس هوية المدينة وإضعافها، تحت وطأة الحظر، ومنع خروج الناس من بيوتهم، وكأنهم باتوا سجناء بقرار إسرائيلي، بسبب الوباء، لكنه قرار يحقق غايات أخرى، في ظل عدم وجود جهة قادرة على رعاية المقدسيين، بشكل فعال، يعزز صمودهم في ظل هذه الظروف الصعبة جدا.
كل المعلومات التي تتدفق من داخل فلسطين تؤشر على وضع مأساوي خصوصا، في غزة والضفة الغربية، والكل يدرك أن أوضاع هذه المناطق، كانت سيئة جدا، وهناك مشاكل سياسية وأمنية واجتماعية واقتصادية، وهذا الوباء زاد من صعوبة الحياة، والأمر ذاته يؤشر على مدة أطول ستترك أثرا عميقا على بنية المجتمع، وكأن الفلسطينيين ينقصهم هذا الوباء ليزيد من معاناتهم، فوق المعاناة الأساسية، التي يعيشونها منذ أكثر من سبعة عقود.
لا بد من مبادرة فلسطينية، أو فلسطينية عربية، للتخفيف عن أهل القدس، اقتصاديا، فالقصة ليست قصة وظيفة، أو عمل يومي، هي قصة المدينة التي تخضع الآن، لظرف أسوأ بكثير من ظرف الاحتلال، ولا يوجد بيت في القدس، إلا وتنزلت عليه هذه الكلفة، اقتصاديا وصحيا واجتماعيا، بما لذلك من أثر سياسي خطير، تحت عنوان تريده إسرائيل، أي إضعاف الحماية الفلسطينية للحرم القدسي، والتسبب بهشاشة لكل سكان القدس الفلسطينيين.
المقدسيون يدفعون الثمن مرتين، مرة بسبب الاحتلال، ومرة بسبب إجراءات الاحتلال بسبب وباء كورونا، وإسرائيل هنا توظف الوباء، لغايات تدمير النسيج المقدسي، بكل الطرق، في أبشع مشهد من مشاهد الاحتلال.