سعيد يعقوب
يقال إن الشعر الحقيقي الخالد الذي يستحق القراءة، ويمثل ذروة سنام الشعر الفخم، هو ذلك الشعر الذي يعبّر عن البعيد بالقريب، وهي عبارة تحتاج منا إلى شيء من الوقوف إزاءها، لتجلية ما يكتنفها من غموض، وتوضيح ما يعتورها من تعمية، فالشعر ليس تسجيلا للواقع من حيث هو، وإنما من حيث يجب أن يكون، من زاوية الشاعر على الأقل، من هنا تبرز مسألة قصيدة القناع، التي يخفي الشاعر عبرها، ما يريد قوله صراحة، وبطريقة مباشرة، لأسباب عديدة منها ما يرجع لظروف نفسية، أو اجتماعية، أو سياسية، تحول بينه وبين التصريح بما يدور في ذهنه، أو يجيش في خاطره، أو يعتمل في نفسه، وتمنعه من الحديث عن رغباته المكبوتة، المركوزة في تلافيف عقله، أو تضاعيف نفسه، أو دواخله العميقة في اللاوعي، فيتخذ المحبوبة رمزا كما فعل كعب بن زهير على سبيل المثال في قصيدته الشهيرة: «بانت سعاد فقلبي اليوم متبول/ متيم إثرها لم يفد مكبولُ».
فيتخذ الشاعر سعاد مرموزا للحياة الجاهلية التي اعتادها العرب، بكل ما فيها من انطلاق وحرية، وبلا قيود أو حدود، وبما فيها من امتيازات ومكتسبات، فسعاد/ الحياة/ أغن غضيض الطرف مكحول، تستهوي الأفئدة، وتستحوذ على الأبصار، وتهيمن على المشاعر، هذه الحياة التي أصبحت في حكم الماضي، ومن صفحات الأمس الغابر، الذي لا سبيل لاستعادته، أو استرجاعه، استسلاما للواقع الجديد المفروض بقوة، وللتدليل على ما أريد قوله أكثر، أستذكر هنا ما فعله أبو ذؤيب الهذلي، في رثاء أبنائه في قصيدته التي يقول فيها: «أمن المنون وريبها تتوجع/ والدهر ليس بمعتب من يجزع»، حين رسم لنا لوحة كلاب الصيد التي تنقض على ثور الوحش، الذي يمثل الحياة الإنسانية وهشاشتها أمام تغول المصير المحتوم عليها، حين يواجه أنيابها الحادة، الثور الذي هو صورة للإنسان الضعيف، الذي لا فرصة أمامه للنجاة، من شباك الفناء، ومصائد الأقدار، ولعل في ما تقدَّم، توضيحا لما أردناه، من إيرادنا لعبارة: التعبير عن البعيد بالقريب، فالشاعر الفنان يقيم بناءه الشعريّ، ومعمار قصيدته الهندسي، بهذه الطريقة سواء أكان مدركا ذلك أو هو يفعله منساقا مع تيارات اللاوعي، التي تتحكم في سلوكاتنا دون أن نشعر بها وتشكل أنساقنا الفكرية، بوحي منها واستجابة لقواها الضاغطة الخفية، من هنا يمكن أن نشكل مدخلا للولوج إلى عالم الدكتور صلاح جرار الشعريّ، ونحن نمتلك في أيدينا مفاتيح هذا العالم الخاص الممتد في فضاءات قصائده، التي تحتاج لمهارة خاصة، في النفاذ إلى ما تخفيه وتنطوي عليه، ولعل في سيميائية العنوان، الذي هو عتبة النص، ما يعيننا على ذلك فـ»جادك الغيث» وهو عنوان الديوان، جملة وردت في موشحة أندلسية، رقيقة للسان الدين بن الخطيب، الشاعر الأندلسي، يقول فيها: «جادك الغيث إذا الغيث همى/ يا زمان الوصل بالأندلس».
وهي أندلسية مشهورة تغنيها الفنانة فيروز بصوتها الشجي الرقراق يحيلنا العنوان مباشرة إلى الأندلس، التي لا يخفي شاعرنا ولعه بها وحبه الجارف لها، بكل ما تمثّله من حضارة ورقي وكرامة وعزة ونهضة، في مجالات الحياة المختلفة، الأدبية والفكرية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، وتعكس صورة الحضارة العربية وتجلياتها، باعتبارها ذروة الرقيّ العربي؛ ما دفعه للتخصّص في أدبها وتاريخها حتى أصبح مرجعية عالمية في هذا الباب وليظفر بنيل وسام ملك إسبانيا على جهوده في خدمة الأدب الأندلسي، وقد كثرت مؤلفات الشاعر عن الأندلس، فهي تمثل له حالة من الحنين للماضي، للفردوس المفقود، إنها حالة من الحنين للماضي بكل ما ينطوي عليه من قداسة، في نفس الشاعر، هذا الشغف بالأندلس، وما تمثله من جمال أخاذ، وسحر خلاب وطهارة ونقاء وبهاء ونضارة وفتنة، وربما ما يصل إلى حدود الكمال، من وجهة نظر الشاعر، هل تخفي وراءها ما يمكن أن يكون قناعا لأمر آخر؟ بمعنى أن الشاعر جرار يعبّر بالقريب عن البعيد، من خلال الحديث عن الأندلس، وهو يريد ما هو أبعد من ذلك، لا يخامرنا أدنى شك بأن ذلك كائن بوضوح، ولا يحتاج لكثير جهد للوصول له، إنه في اعتقادنا قناع للحديث عن الوطن الضائع، والقرية المستباحة، قرية الشاعر كفر قود، قرية الشاعر، التي غادرها صغيرا، في أول الصبا، تاركة في نفسه أطيب الذكريات، وأجمل اللحظات، وأكرم العلاقات، بين مسقط الرأس والشاعر، القرية بأهلها البسطاء، وطبيعتها الجميلة، وما نقشته في ذاكرته من الصور، التي لا تمحى، واللوحات التي لا سبيل إلى نسيانها، مما جعل الشاعر منطلقا للبحث عن المعادل الموضوعي، الذي يعيد التوازن لنفسه، التي أمضّها الفراق، وأوجعتها الغربة، وأنهكها البعد، وأضر بها الغياب عن قريته الجميلة كفر قود، فوجده عن علم أو غير علم بذلك، في الأندلس، التي يمكن الوصول لها، حين أصبح الوصول إلى كفر قود متعذرا، بسبب الاحتلال الصهيوني وممارساته القمعية، وما أشبه مصير كفر قود بمصير الأندلس فكلاهما ضاع أو ضُيِّعَ، في غفلة من الزمن، وخضعا لتصاريف الزمن، ومجاديف الأقدار، ووجد في تاريخ الأندلس وآثارها السلوى والعزاء وما يخفف به آلامه، فحين يتحدث جرار متغزلا بطبيعة الأندلس، إنما يتحدث عن جمال قريته، وحين يذكر محاسنها، إنما يستحضر محاسن كفر قود، بكل ما تنطوي عليه من فتنة وقداسة، وحين يتغزل بامرأة ما على ظاهر اللفظ، إنما يتغزل بتلك القرية الوادعة الجميلة كفر قود وجنين على وجه الخصوص، وفلسطين على وجه العموم، فهذا العنوان جادك الغيث جملة دعائية تدعو بأن يصيب الغيث المرتبط بالغوث أساسا هذا الحبيب/ الوطن/ وحين ندلف قليلا إلى داخل الديوان، يطالعنا الإهداء الذي هو عتبة نصية أخرى، تسلط الضوء على مضامين الديوان فنقرأ في إهدائه «إلى المسكونين بالحب والحزن والصدق وصفاء السريرة» إلى المسكونين بالحب، فالحب هو الهاجس الذي يحرك مشاعره، تجاه قريته، والحزن الناجم عن فراقها، والصدق أحد أهم سجايا أبنائها، الذين عرفهم بصفاء سريرتهم، فهذا الإهداء، يكشف لنا عمّا يطويه في نفسه، من حب وحزن وصدق وصفاء سريرة، وقد وقفت في هذا الديوان الجميل الرائع، على كثير من تمظهرات هذه النستالوجيا، التي تشد الشاعر بقوة إلى الماضي، الذي لا يفتأ يحن له، ويهجس به، ويسكنه ويشغل تفكيره ولا ينفك يذوب عشقا له، ووجدا به، ونزوعا إليه، ولنقرأ على سبيل المثال قوله في قصيدة سراب الأحلام:
«أشهى من العسل الجنيّ رضابُهُ/ وألذّ من خمر الكؤوس لعابُهُ/ وأعز شيء في الضمير حضورُهُ/ وأمرّ شيء في الفؤاد غيابُهُ».
إنه دون شك هنا يخاطب الوطن، وإن كان على ظاهر اللفظ/ القناع/ يبدأ متغزلا بالمحبوب، فريقه أشهى من العسل، ولعابه ألذ من الخمر، وحضوره عزيز له مقام سام في ضميره، ولكن غيابه مرٌّ، بطعم العلقم، وهذا يتجاوز الحبيب، إلى ما هو أهم وأغلى إنه الوطن البعيد، الفردوس المفقود الضائع، ويقول في قصيدة أخرى تحمل عنوان الزمن العذْب:
«شوقي إلى ذاك الزمان وطيبِهِ/ شوق المحب إلى لقاء حبيبِهِ / ما أجمل الزمن النبيل إذا بدا/ متلألئا من بعد طول مغيبه».
فأيّ زمن عذب هذا، إن لم يكن زمن الصبا، في قريته كفر قود، وشوقه لها، وحنينه المسيطر على حركاته وسكناته، لا شيء يشبهه إلا شوق المحب إلى لقاء حبيبه إنه لا يتحدث عن حب لبشر وإنما يرقى بمشاعره إلى حب وطن، إنه زمن نبيل، يشع كالشمس، بأضوائه داخل عتمة الغياب والفقد، والبعد، ثم في قصيدة أخرى يتحدث عن فاس ويتحدث عن خزائنها التي تحتوي كنوز الكتب، والمخطوطات، ويأتي على ذكر معالمها وآثارها وقناطرها، ومنابرها، ولا نظنه إلا يتحدث عن ذكرياته، الكنز الحقيقي في نفسه، في قريته وحنينه لها، ورموزها الخالدة، في ذاكرته، ووجدانه، وفي قصيدة شجن أندلسيّ يقول:
«زارني منك خيالٌ طارق/ فشفى مِن لوعتي ما قد شفى/ كان للعمر الذي مضى زينته/ كان للأيام فيها الزخرفا».
فأي خيال طارق هذا، الذي يعتاده ويزوره، سوى خيال وطنه، وطيف قريته، وصور أهله وأحبته هناك، في كفر قود، التي خلع على ملاعبها صباه، إنه العمر الذي مضى، وكان أجمل ما في الأيام زينتها وزخرفها.
وهكذا يحلّق بنا الشاعر الدكتور صلاح جرار في كل قصائد ديوانه الجميل «جادك الغيث «مطوّفا بنا في أمداء الحنين وفضاءات التوق، إلى وطنه وقريته كفر قود، وإلى أيام صباه الأولى، في حالة من الحنين للماضي تنتظم كل أبيات الديوان، مما يترك في نفس القارئ المتعة والإحساس العميق بمدى تعلق الشاعر بوطنه، وقريته كفر قود، والانجذاب القسري إلى مسقط الرأس وملاعب الصبا وذكريات طفولته، ولعل من فضلة القول وزائد الكلام أن نقول إن الدكتور صلاح جرار في هذا الديوان يتقن العزف بمهارة على أوتار الشعر ويقف كتفا إلى كتف مع كبار شعراء العربية في كل العصور فلا تجدا أثرا لصنعة أو تكلف، أو خطأ واحد في عروض أو قافية أو لغة أو نحو أو صرف مما لا يكاد ينجو منه شعر شاعر بل نجد كل ما هو جميل وبديع مما تتطلبه قواعد لعبة الشعر الساحرة واشتراطاتها المذهلة، وما المقالة هذه إلا دعوة رقيقة لمحبي الشعر الفخيم، لقراءة هذا الديوان الجميل، والتطواف في حدائقه الغناء، لتذوق الجمال في ديوان قليل أمثاله عزيز أشباهه نادر نظائره.