عروبة الاخباري – كتب سلطان الحطاب
تدفق الحضور على القاعة التي تتسع لألف، ومنهم من بقى واقفاً او افترش المدرجات بين المقاعد، كان الحضور قد جاء لسماع الشخصية الأكثر اطلاعاً على فكر السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- والأكثر مرافقة له في السياسة الخارجية لما يقارب العقود الثلاثة في الموقع الدبلوماسي الأول، وقبل ذلك في المتابعة.. فقد حظي الوزير يوسف بن علوي أمس بحضور لافت، ومجموعة من الاسئلة التي أعقبت محاضرته الهامة التي حملت لمعاً من سيرة السلطان الراحل، وهي تتحدث عن قيمة السلام ومفهومه عند السلطان، وأنه كان هبة وميراثاً.. وأن السلطان برسالة السلام وبما كان به من خصال وقدرات ووعي عن الواقع العماني إنما كان هبة الله لشعب عُمان بل ان الوزير بن علوي قال:” ان السلطان أمة” أي أنه تمثل في شخصية الأمة وحملها هماً وأملاً ومستقبلاً وتاريخاً، حتى غدت متحققة فيه، والمقصود هنا الأمة العُمانية وشعبها الممتد منذ الازل، قبل الدعوة المحمدية والى اليوم ومن خالطها من الشعوب العديدة في مسيرتها التي قادتها منذ أكثر من (240) سنة أسرة كريمة متصلة هي “الأسرة البوسعيدية” التي لم تكن الأكثر عدداً أوعدة او مالاً، وإنما لما تمتعت به قياداتها المتعاقبة في سلاطينها الغرّ الميامين من حكمة ” ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا”.
لماذا السلام؟ هو ما توقف عنده بن علوي، هل كان يقصد به القيمة المطلقة التي يمكن ربطها بالعدل، او القيمة ذات البعد التصوفي الذي يفضي إلى التأمل، وبالتالي اكتشاف الانسان في تجليات تفكيره مع خالقه .. في حالة من الاستشراق كما أراد الوزير أو الاستبطان كما في إشارات المتصوفة التي تبدأ بالزيادة وتنتهي بالإحسان.. فهل كان السلطان في ذلك، وهل استطاعت عُمان بما حباها المولى من موقع وتراكم تاريخ وحكمة قيادة أن تنبت ابنها الذي أعاد حملها للعالم، فكان الراحل الكبير قد وعى ذلك منذ يوم النهضة الأولى حين بشّر العًمانيين بالسلام، وقد فعل، حتى اذا ما ظفرت عُمان بسلامها بعد معاناة، امسكت به وبنت فيه سياساتها ونهجها وعظمت دورها من خلاله، فكان فائض عطائها في حيادها الايجابي وفي حالة التسيير التي يراها البعض الوساطة ليكون ذلك شاهداً على ما أعطت السلطنة وما انفردت به حين لم تكن تقبل أن تكرر مواقف الاخرين، أو أن تسلك سلوكهم، إلا بعد تمحيص وتوخي الدقة، فقد عُرف عن العُمانيين انهم نشدوا الحقيقة، وكانت ضالتهم، ولم يكونوا يسلموا لغيرها حتى حين جاءتهم الدعوة المحمدية لأن يدخلوا الاسلام ارسل ملكهم انذاك “الجلندي” بعد وفادة عمر بن العاص بالدعوة الى أهل عُمان، ارسل الملك من يتأكد من خلال وقد التقى الرسول (ص) واطلع على الدين الجديد ليعود بالاجابة والاقرار.. وهذه القصة رواها “بن علوي” نقلاً عن خطيب المسجد الأموي في دمشق استكمالا للرواية المعروفة عن الرسول(ص) حين أرسل وفده لدعوة اهل عُمان للاسلام، وقال: “هؤلاء الذين آمنوا بي قبل أن يروني”، لتكون الرؤية بعد ذلك مصدقة لما جاء به الرسول (ص).
وعُمان التي أدركت السلام واستقلت به، وهيأت مقدراتها من خلال إرادته ايضا لغيرها ومحيطها، واقليمها فكانت قد وضعت لذلك نهج دبلوماسيتها ،فقد كانت السلطنة من خلال السلطان قابوس وتوجيهه مع مصر الفاعلة غير المعزولة نتيجة اجتهاد لا يجوز أن تتحقق فيه العقوبة، لأن مصر في فكر السلام والسلطان كبيرة، وهي “عكازة الامة” كما يحلو لـ ابن علوي ان يسميها ، وكان لعُمان دور في وقف الحرب العراقية الايرانية التي انقسم عليها النظام العربي بين معسكرين وفي خندقين.. وكانت عُمان مع السلام ومكوناته حين نجحت في نزع فتيل التحريض النووي ضد ايران بعقد اتفاق (5+1) المتعلق بالنشاط النووي الايراني .. وكانت عُمان وهي تُعرب جملة السلام التي أناط السلطان اعرابها لوزيره بن علوي الذي كان يسعى بفكر السلطان على الارض و في الميدان ليجسده، وقد أدركت الوساطات العُمانية لاطلاق سراح أسرى ورهائن مخطوفين لدول كبرى عجزت وسائل الضغط التقليدية عن انقاذهم، ولكن فلسفة التسيير العمانية وما امتلكته عُمان من رصيد ثقة عند دول العالم ساعدها في انجاز ذلك..
وبرز السؤال هل هي الجغرافيا.. الموقع ..صعوبتها أم التاريخ وتراكمه وإعلانه عن نفسه في مواقع صمود وانتصارات وتخلص من المحتل؟ وتقول للآخر المسالم: أن العبقرية العمانية المُعبر عنها بالسلالة السلطانية التي أسبغت على شعبها صفات، وتمثلت فيه آماله فكان الاندماج والانصهار والتماهي ما بين قيادة السلطان الراحل والسلطان القائم وكلاهما احيا شعبهما العماني يصل الى التفاني المُعبر عنه بالعمل والسلوك وليس القول..
تسطع شمس السلام في عُمان وتوصل طلوعها ويراها الخلق ويقرّون لعمان بهذه الميزة التي اصبحت علامة فارقة في الكتاب العماني المعروض للعالم لقد ظلت عُمان مهما ادلهمت الخطوب وتعقدت المسائل تأخذ بمنحنى “تعالوا الى كلمة سواء ,وتعالوا الى الحوار” إلى التوافق الذي يرغب وزير الاعلام الدكتور عبد المنعم الحسني ويفضل أن يسميه المؤتلف…. من اشتقاق الائتلاف أي التوافق على الحق ونبذ الباطل منطلقا من (ألفت بين قلوبهم) والتأليف بين القلوب أو بين المواقف والقضايا يحتاج الى جهد وحوار وقبول الآخر وفهمه وإدراك مصالحه وعدم احتكار الحقيقة أو التقوقع باعتقاد الأفضلية لنا وللآخرين غير ذلك…
كان لعُمان من قضايا عديدة في اقليمها وعالمها العربي ومحيطها ولدى دول العالم رؤية مختلفة اذ أن عَمان لا تريد كما ظل سلطانها الراحل يؤكد (لا تجمع على ضلالة) بل تتوخى الحق الذي كان أولى أن يتبع…
أمس كنت استمع إلى يوسف بن علوي الذي ظل في طرحه بسيطاً مختصرا غير مستعرض وإنما يمارس ما تمارسه منارة البحر في إضاءاتها لإرشاد السفن حتى تصل الى الميناء فكانت أفكاره الإرشادية باتجاه المورد العماني لمزيد من معرفة السياسات العمانية التي أراد أن يتوقف في واحدة من محطاتها وهي محطة السلام في فكر السلطان…
أحسست أنه يتحدث عن السلام بمنزع صوفي لأنه أراد أن يقترب من جوهرة وأن يبتعد عن تفاصيله ومن هنا أردت في مداخلتي أن أميز بين السلام المتداول بفهم اليوم وبين سلام المسيح ونظرية الخد الأيمن والخد الأيسر…
حتى لا تكون الفكرة طوباوية رومانسية فعُمان هي أيضا انتزعت سلامها وقاتلت من أجله وقامت بحمايته ووفرت وسائل الدفاع عنه وأرادت من خلال الإمساك به والتمتع بمناخاته أن تحقق بُعد العبادة من خلال السلام وبالسلام لتكون السكينة التي القي الله بها في صدور العمانيين منذ كان رائدهم سلطانهم الراحل الذي لم يكذبهم وإنما كان فيهم مبشراً ومحباً وصاحب رسالة…
ولأنه أي السلطان الراحل شخصية مرتوية من القيم والمبادئ الخلاقة التي فاضت بالرسالة السلطانية في المؤتلف الإنساني، فإن هذه الشخصية التى وصف بعض جوانبها بعجالة بن علوي على وعد بالتفصيل لاحقاً كانت متكاملة تنظر للأمام وتسعى من أجل اسعاد الإنسان وهو ما جاء في بيان النهضة العمانية منذ يومها الأول حين وعد السلطان اهله ولم يكذبهم ونقلهم إلى رحاب الدنيا العريضة وشراكاتها وصنع لهم دوراً فاعلاً فيها مع بقية الأمم…
كنت مشدوداً حين تكلم بن علوي عن بساطة معاملة السلطان لمن هم حوله ولشعبه وإيمانهم بحوارهم دون وساطة ووجها لوجه, وقد عرف عنه ذلك وكيف كان يهتم بمجالسيه ويسهر عليهم بدل العكس, وكيف استطاع العمانيون بأخلاقهم الإنسانية الراقية وهم يبسطون سيطرتهم على مناطق عديدة في شرق أفريقيا يقبلون الآخر ويتزاوجون معه ويشاركونه وهو ما اختلفوا فيه عن المستعمرين الذين جاءوا من قبل ومن بعد….
نعم…. عَمان دولة عصرية كما قال بن علوي وضع السلطان مداميكها الأولى واعلاها وجاء من يواصل البناء والمسيرة… ويرى بن علوي أن الرهان اليوم وقد تغيرت الدنيا وهي غير ما كان منها مما عرفناه فكانت التكنولوجيا وتأثيراتها وكان الشباب الطامع الآن والذي تزيد نسبته عن 70% من عدد السكان، وقد بارك الوزير دور الشباب وخاطبهم في القاعة وخارجها.
لقد تغيرت المعطيات وتحولت الصيغ القديمة من أسلحة وغزو وحكومات ونفوذ إلى صيغة يحكمها الشارع والجمهور ووسائل الإتصال التكنولوجية الحديثة فماذا نحن فاعلون؟
محاضرة بن علوي فتحت افاق. وشرعت أبواب واغرت المهتمين من الحاضرين بضرورة الابحار في فكر السلطان وهو ما دعا له الإعلامي البارز الذي قدم الوزير للحديث في الندوة حين دعاه الى الإبحار…
بقي أن أقول أن محاضرة بن علوي هي واحدة من المحاضرات العديدة التي شهدتها أروقة معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته المميزة الخامسة والعشرين بالعديد من المحاضرات والنشاطات التي أبدع الوزير الحسني في رعايتها وتوفير كل أسباب النجاح لها…