عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
بمناسبة رحيل السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله ، فإن موقع “عروبة الإخباري” ينشر سلسلة حلقات عن حياة الراحل ومسيرته الغنية في بناء الدولة العُمانية، والتي استمرت لنصف قرن استطاع فيها أن يضع عُمان على خارطة العالم المتفاعل، وأن يقدمها كنموذج للسلام والتعاون والشراكة في منطقتها ومحيطها العربي وبعدها العالمي.
لقد كان السلطان قائدا عظيما، التف حول جنازته ومشى خلفها قادة من كل دول العالم وبعضهم لم يلتق مع صديقه أو خصمه إلا في جنازة هذا القائد الذي ظلت سياسته تقبل القسمة على الجميع، ويرى فيه الجميع رجل محبة وسلام وعطاء.
الحلقة الحادية عشر ..شخصية السلطان
لقد هضمت عمان في تاريخها مختلف التيارات ، حين كونت الامبراطورية، وظلت قادرة كذلك على استيعاب كل مكوناتها المذهبية والمعرفية في دمج ناجح وفي صيغة حضارية ارتقت بها عمان، لتكون شاهداً في محيطها واقليمها على التعايش والتوافق وعلى بناء وحدة وطنية متينة وصلبة ..
لقد استفاد السلطان من ثقافته العربية الاسلامية وتمازجها مع الثقافة الغربية التي تلقاها وتعرض لها حين كان يدرس في الغرب في بريطانيا ،ويتدرب في المانيا ويجوب اقطار العالم باحثاً عن المعرفة ومطالعاً لثقافات الشعوب والوان حضارتها .. وكان لتمازج ثقافته الدور في ان يرى لعمان دورها التاريخي الاصيل وتطلعها المعاصر والحضاري ولحاقها بالمركب العماني ، ولذا فان السلطان بحق حرر العمانيين من تقاليد مؤذية ومن مصادرة حرياتهم يوم قال لهم: ” اذهبوا فانتم الطلقاء ” عشية تسلمه مسؤولياته، ولم يجبرهم على ارتداء الحجاب كما فعلت دول ، ولم يدمر تراثهم او يشوه اعرافهم وتقاليدهم تحت اي مسمى، وظل وفياً للتقدم والشراكة العالمية في بناء الحضارة ،
وعمان لم تعرف الارهاب ولم تصدره ولم تُفت به او يخرج من معتقداتها او مذاهبها مايشي به ، كما انها لم تغلق طريقاً في وجه التقدم والبناء والتعليم ، وقد سجلت في هذا السباق باتجاه التعليم والتطور والانفتاح المسؤول والمتدرج ارقاماً قياسية . فمن غياب المدارس وخاصة للبنات كلياً الى الاف المدارس ، ومن أميّة ثقيلة الى ازالة الامية بنسبة تنافس دولا عريقة ، ومن حجر على الفكر والمعتقدات والتطور الى تمكين الشباب العماني النافع من المشاركة في الاكتشافات وتسجيل براءات الاختراع والتميز في مجالات عديدة ..
وما ارتضاه السلطان لنفسه اراده دائماً للعمانيين حين سير لهم البعثات التعليمية في كل انحاء الدنيا ومكنهم من الاطلاع على المعرفة والمساهمة فيها ،دون ان ينسى دائما ان يذكرهم باصالتهم وتراثهم ودور اجدادهم في ركب البحر والتجارة والعمل والبناء والتفوق ..
لقد كان لاطلاع السلطان على الحضارة ونهله منها ما مكنه من التغير ، لان التغيير في الاصل معرفة وهضم للمعرفة وتتويج بنتائجها .. وقد اراد للجيل العماني الذي يقوده ان يفعل، ولذا ينخرط العمانيون الان في التعليم في الداخل والخارج وفي عشرات الدورات على المستويات المدنية والعسكرية وهذا ما مكن السلطان الذي كانت بلاده تفتقر الى المتخصصين والمتعلمين والخبراء بداية النهضة الى بناء المؤسسات اليوم والقادرة على العمل في بناء الدولة المعاصرة ،دولة المؤسسات ودولة القانون والتشريع ودولة العدالة .. الدولة لكل مواطنيها حيث الحقوق والواجبات ..
وهذا ما مكن السلطان قابوس من خلال قيادته المثقفة والحكيمة من ادارة شؤون بلاده ومواجهة الازمات والتحديات مهما تعاظمت ، والتعامل والتعاطي من موجة الربيع العربي ، وما واجه عمان منها بمعرفة واقتدار واحتواء ، وقدرة على حل المشاكل التي نشبت واطفاء آثار التوتر واشتعالها بسرعة ، ليس بالقمع الذي يولد الشرر والحريق، وانما بالمعالجة الهادئة وسحب الذرائع وتحقيق المطالب والتخلص من الاخطاء ومحاربة النساء وابعاد رموزه وتمكين الشباب من الاطلاع والمشاركة واعتماد الانجاز وسيلة للشرعية وقبول الحكم، والتعاقد الاجتماعي ، وقد فعل السلطان كل ذلك وبمبادرة منه وتلقائية ، وقد لاقى المحتجين والمتذمرين في منتصف الطريق من اجل سلامة عمان ومواطنيها واستقرارها ومستقبلها وهو لم يستخف باي راي او مطالبة رغم وضوح كثير من الاخطاء والمعتقدات غير الصائبة لدى بعض الفئات المحتجة التي تأثرت بعوامل خارجية واستمعت لآراء غير وطنية ..
أسلوب المعالجة العمانية جدير ان نتوقف عنده وان يدرس ويعمم لنجاحه وهو أسلوب اعتمد على خدمة المواطن وتعظيم دوره ومسؤوليته . وتحميله المسؤولية في خدمة بلده .. ولهذا تلاقت ” ارادته المخلصة مع ارادة شعبه الوفي فسارا معا في موكب واحد على طريق النهج العلمي ” الذي وصفه جلالته في خطابه التاريخي الاول ..
وليس صاحب الشهادة هذا وحده ممن اعجبوا بالسلطان وقدروا لهذه الشخصية الكارزماتية دورها واهميتها وسطوع تاثيرها فقد كان في الاعجاب قادة كبار ورؤساء دول وفلاسفة ومؤرخون وعلماء وباحثون اتخذوا من افعال السلطان وانجازاته لبلده نموذجا للمقارنة ..
لقد تكاملت المسيرة خلال نصف قرن وفية للحظة الاولى مكرسة ومنفذة للوعود التي قطعها السلطان على نفسه في ان يظل رحيما بشعبه ، مخلصا لاهدافه ومستمرا في بناء انجازاته ، وفي بناء الاجيال العمانية وتعهد الرجال القادة منهم ليواصلوا المسيرة مسيرة عمان المستقبل الذي رسم السلطان ملامحها وتجسدت محطاتها بشكل علمي وموضوعي في هذه الاستثمارات الهائلة القائمة والمنظورة والتي رات في عمان بيئة مناسبة آمنة ومستقرة ..
وهناك شهادة اخرى لشخصية عراقية هي ” محمد نجيب الربيعي ” الذي يقول ” ان جلالته كان مثالا للضابط العربي في سلوكه الحضاري وتعامله مع القادة ” (2). وهو في مشيته يعكس النظام والقوة والتهذيب . ومن هذا المنطلق تزود بالمعرفة العسكرية الرفيعة في وقت تشكو فيه امته من الضعف ومن هوانها على الامم فانه يظل يحثها على التقدم والصمود والعمل على كسب النصر في كل الميادين وخاصة ميادين التنمية والسلام فبهما تتقدم الامم وتنتصر ايضا بما يمكنها ان تنتصر حين تحارب او تختبر ارادتها ولهذا حيّا السلطان انتصارات الامة وعمل على دعمها ونقد الهزائم والتراجعات وعمل على معالجتها وكشف المخبوء من الاسباب دون تردد وظل يرى ان العسكرية شرف لابد ان يكون منذورا للتضحية والعطاء ..
ولهذا ظل باستمرار يحي قواته المسلحة ومنتسبيها على اختلاف مواقعهم ورتبهم ويرى فيهم الوعد بالمستقبل ..
والامل ولا يخلو اي خطاب له تقريبا منذ بداية النهضة الى اليوم ،الا وفيه اشاره لهذه القوات المسلحة السلطانية ، ودورها والاستثمار فيها لتكون درع عمان الواقي وحافظة التنمية وحامية المشروع الوطني في الديمقراطية والتغير والاصلاح والشراكة ..
والربيعي في شهادته يقول : ” اننا عرفنا في اليوم التالي من دراستنا في الكلية اسم ( قابوس ) حين ضرب قائدنا العسكري في الكلية المثال بالشاب قابوس فقد كان يشرح لنا برنامج العمل ونمط الحياة والواجبات التي يجب علينا تنفيذها ودعانا الى الاهتمام بالمظهر والاعتناء بالملابس العسكرية .. فتوجهت عيوننا الى صاحب الاسم ومن يومها تعرفت إليه ” (3) ..
ولما كان قابوس هو المثال الذي ضربه المدرب لنا والكلام لصاحب الشهادة الربيعي وقوله : ” انه افضل ضابط عسكري ملتزم ومهتم بملابسه .. جاءت معرفتي بشخصية قابوس وعلق اسمه في ذهني الى ان جاء الوقت المناسب فتعرفت إليه وقد كنت قبل ذلك اسأل عنه الزملاء الذين سبقونا في الدراسة من ابناء دفعته ”
ويمضي الربيعي قائلاً : ” وشاءت الاقدار ان التقي بالطالب قابوس في ردهة احد الزملاء بينما كنا جالسين داخل الغرفة فدق الباب فدعوناه للتفضل ، واذا شاب انيق يطل علينا فحيانا تحية طيبة ملؤها التقدير والاحترام وعرفني زميلي عصام الشوك إلى جلالته وقال انه زميل لنا بالكلية ” (4)..
وتأكيداً لما حللناه من شخصيته ياتي كلام صاحب الشهادة بالقول ” لم يأت الطالب قابوس الى غرفة زميله بقصد قتل الملل وكسر الرتابة ، وانما قدم للاستفسار عن بعض المعلومات والخطط العسكرية وكان يحمل في يده اليسرى خارطة وكتاباً ووقف امامنا لبضع دقائق وقبل ان يغادر الغرفة دعاني لزيارته ووعدته وتركنا فتذكرت خلقه وادبه واسلوبه الطيب .
ثم تكررت لقاءاتنا بجلالته في المطعم والممرات والاستراحة وكنا حين نلتقيه نلمح في وجهه الابتسامة الجميلة التي ترتسم على محياه . وكان يقول لي ونحن نفترق بعبارة عربية اصيلة ” اشوفك مرة ثانية يا محمد “(5) فنفترق على الخير .
ويضيف الربيعي الملقب بابو نجيب قائلا : “اتذكر اني لعبت مع جلالته الهوكي وقد كان في الفريق الند لفريقي ” ويضيف صاحب الشهادة .. ” اتذكر من هذه الشخصية العمانية انه كان فارسا من الطراز الاول ويحب رياضة الفروسية وقد اهدى فرساً للكلية .. وذلك على سبيل اللفتة الكريمة وتأكيد الاصالة والكرم العربي الاصيل ” وعبر صاحب الرواية عن السلطان بقوله ” كم كنت فخوراً حين تولى جلالة السلطان قابوس المسؤولية في عمان .. لقد نشرت النبأ بين زملائي باعتباره زميلاً لنا في كلية ساندهيرست . وقد بدأت اتابع خطاه على طريق الخير الذي انصف به السلطان دائما وتابعت كل خطواته التي كرسها من اجل وطنه وشعبه حتى وصلت عمان الى ما وصلت اليه اليوم في عهده الميمون ان من حق كل عربي ان يفخر بما اعطى جلالة السلطان في كل الميادين وساحات العمل الوطنية على امتداد الامة ابتداء من عمان الابية ..
الربيعي يتساءل ” اين كانت عمان واين اصبحت الان .. الفرق بين الحالتين كالفرق بين الثريا والثرى ” (6).
من كتاب سلطنة وسلطان .. أمة وقائد السلطان قابوس بن سعيد / المؤلف سلطان الحطاب
يتبع الحلقة الثانية عشر ..