عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
بمناسبة رحيل السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله ، فإن موقع “عروبة الإخباري” ينشر سلسلة حلقات عن حياة الراحل ومسيرته الغنية في بناء الدولة العُمانية، والتي استمرت لنصف قرن استطاع فيها أن يضع عُمان على خارطة العالم المتفاعل، وأن يقدمها كنموذج للسلام والتعاون والشراكة في منطقتها ومحيطها العربي وبعدها العالمي.
لقد كان السلطان قائدا عظيما، التف حول جنازته ومشى خلفها قادة من كل دول العالم وبعضهم لم يلتق مع صديقه أو خصمه إلا في جنازة هذا القائد الذي ظلت سياسته تقبل القسمة على الجميع، ويرى فيه الجميع رجل محبة وسلام وعطاء.
الحلقة الخامسة .. المكتوب يقرأ من عنوانه
نعود الى شخصية السلطان قابوس في خضم هذا العمل الواسع والمعقد من السياسات الداخلية والخارجية التي يقودها وتنطبع بطابع شخصيته وتقرأ مقولات قديمة لجورج لويس بيو فن
( 1707 – 1788) في التحليل الشخصي والممارسة والابداع حين يقول ( الاسلوب هو الانسان ذاته ونحن نستطيع ان نحكم على الشخص بالتجليات المتميزة للموهبة البشرية التي يتحلى بها، فالطابع السريع المحفوف بالمجازفة من جهة والصائب والمحسوب بدقة من جهة اخرى.
رأيناه في سلوك السلطان في الحرب والسلم وسنراه في انجازاته عبر نصف قرن من تراكمها .. لقد قدم اوراق اعتماده كابن وفي لتاريخ عمان وخاض معركة النصر منذ اللحظات الأولى ليخلص الوطن العماني من العدوان والالغاء والنفوذ الاجنبي الذي عانت عمان منه طويلاً ،ودفع قادتها من سلالة السلطان الكثير لاسترجاع مجد الامبراطورية العمانية ، وهاهو يعتمد الانجاز وشرعية لحكمه ليعزز شرعية الوراثة والعقيدة والنسب بشرعية الانجاز التي هي الاغلب اليوم أمام نظر العالم وفي عهد حقوق الانسان والحريات، ومن هنا كانت اجنحة الشرعية تحمل السلطان قابوس الى اهدافه لا ينازعه فيها أو عليها منصف في عمان أو خارجها، فالشاب الذي خرج على والده لمصلحة شعبه لم يركن الى شرعية الوراثة ولا حتى النسب، وانما اراد أن يسبح بنفسه في تيار التغيير وان يصارع الموج لينقذ شعبه وان يكون لهذا الشعب خشبة النجاة أولاً، ثم مركب النجاة الى ان يصل به الشواطىء وقد فعل،.
وفي خضم انقاذ شعبه والتضحية من اجله لم يلتفت الى الذين حاربوه بعد انتصاره عليهم ولم يضع الوقت في الشماتة أو الانتقام بل قال لهم ما قال محمد لأهل مكة عند فتحها ( اذهبوا فانتم الطلقاء وزاد ان قال لهم مخاطباً وقد احتفى بالنصر وسار على طريق الانجازات ) ان انتصارنا يتجسد في عودة ابنائنا الينا والى طريق الحق التي تسير عليها وليس في قتلهم وهزيمتهم . المهم ان نكسب القلوب لا ان نربح المعارك والسؤال هل من قائد بعد هذا القائد يمكن ان يقول مثل هذا القول الاّ اذا كان يحمل بشرى ويعد بمستقبل يحمله اليه بلده وهذا ماسنراه ونحن نترجم ما بين السطور من خطبه وكلماته ..
حين نرى هذا الكم من السفارات في اجمل المواقع على البحر في مسقط وقد ارتفعت ابنيتها بانتظام ورفرفت عليها اعلام الدول العديدة وقد نهضت السلطنة بالابنية والخدمات فان المرء يذهل . وبالمقابل يستغرب من اتساع تمثيل السلطنة لدى دول العالم في هذه الاعداد المشابهة لهذا العدد من السفارات في عمان ونتساءل ونحن في العام 2014 بعد اربع واربعين سنة بين ما كان في الامس وما عليه السلطنة اليوم .
فالخارجية التي يقودها السلطان قابوس والتي يعمل فيها رجل نابه هو وزير الدولة للشؤون الخارجية يوسف بن علوي الذي اكتسب خبرات طويلة حتى أصبح مرجعاً للكثير من السفراء والقادة في العالم حين يلتقونه ..
كانت الخارجية العمانية انذاك العام 1970 مؤسسة صغيرة موظفوها قليلون لا يمتكلون الخبرة وخاصة في العلاقات الدولية التي ظلت منذ اليوم الأول محط اهتمام السلطان ووسيلته لاعادة انتشار خريطة عمان على الكرة الارضية لتعمق آثار الخريطة التي انجحت من قبل ..
لقد استبدل السلطان الموظفين الاجانب وشيوخ القبائل وعلماء الدين وبعض المثقفين غير الخبراء بطواقم كان يصنعها بصعوبة ويؤهلها ويدربها من ابناء عمان وبالتدريج لتحل محل اولئك وتحمل اسم عمان وصورتها وتبشر بها ليصل الأمر الى ان يكون للسلطنة هذا العدد الهائل من السفراء ممن يحملون الدكتوراة ويشكلون عناوين بارزة في العمل الدبلوماسي ليصل ان تكون سفير السلطنة لدى الولايات المتحدة الأميركية سيدة وان تأخذ المرأة مكانتها باسناد حقيقي وتمكن واضح في اكثر المؤسسات العمانية القيادية في مجلس الدولة والشورى وفي كل المحطات المتقدمة من العمل السياسي والاداري وحتى الأمني والعسكري .
اتسمت حوارات السلطان منذ اليوم الأول وحتى الأن بالصراحة والوضوح والجرأة حين يقلب الامر ذلك وقد كان محط اعجاب من التقوه منذ يومه الاول في المسؤولية فقد اعجب به الشيخ زايد بن سلطان وشاه ايران حيث زار السلطان ايران كاول دولة يزورها بعد ان تسلم سلطاته، وقد اعجب به الشاه ورأى فيه رمزاً لاعادة الاعتبار الى عمان كما اعجب به الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز ..
فصراحة السلطان قابوس كما كتب عنها لا تترك مجالاً للف والدوران ومرونته الشديدة لا تشبهان ما تعود عليه الناس في بلادنا العربية حيث الدبلوماسية متخلفة ومتحجرة رغم وصفها بالعقلانية وهي اي تلك الدبلوماسية المتحجرة حسب وصف السلطان يهمها ان تبلغ اهدافها بالتحايل والمراوغة .
واستطاع السلطان بزياراته الأولى لكثير من البلدان ان يغير الصورة وان يزيل الجليد في علاقات بلاده معها وان يعيد النبض والسخونة لتلك العلاقات بما في ذلك مع الجامعة العربية التي تحفظت على عضوية عمان بداية وكذلك الامم المتحدة وحتى المملكة العربية السعودية الجارة التي امتنعت عن التصويت لعضوية عمان في الامم المتحدة ؛ ما يعكس طبيعة العلاقة مع عمان قبل زيارة السلطان للرياض لأول مرة وهي الزيارة التي زرعت بذور الثقة ..
السلطان قابوس ومنذ تسلمه لسلطاته ظل يقول ان ايران ليست عدوة للأمة العربية وقد واجهت هذه المقولة مقولات عديدة وسياسات عديدة تصادمت معها ولكن ثبتت لأولئك الذين أخذوا بهذه المقولة بقناعات غيرهم أو حتى قناعاتهم ان الأمر ليس كذلك وانهم بحاجة الى حوار الجار والشريك في التراث والديانة وانه بمقدار عمق الحوار وجديته ومراعاة المصالح المشتركة فيه بمقدار تغيير الصورة وهذا ما أثبتته الوقائع مجدداً حتى في خضم الصراعات والخلافات والحروب الاقليمية التي يستفيد منها اعداء المنطقة والاقليم ومن هنا تصبح الوساطة العمانية لدى ايران من اجل اطراف عربية واقليمية ودولية ذات اهمية خاصة وخاصة تلك الوساطات التي انفذها السلطان بزيارته في اب اغسطس العام 2014 الى ايران والوساطة العمانية بين ايران والولايات المتحدة واخيراً بين ايران والمملكة العربية السعودية ووساطات عديدة كانت ايران وغيرها اطراف فيها ..
ولعل هذه الوساطات ووضوحها وشفافيتها وان دارت خلف الكواليس واحتمت عن وسائل الاعلام فتحت صفحات جديدة في الاستقرار وامن الاقليم والمنطقة ..
من كتاب سلطنة وسلطان .. أمة وقائد السلطان قابوس بن سعيد / المؤلف سلطان الحطاب
يتبع الحلقة السادسة ..