عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
بمناسبة رحيل السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله ، فإن موقع “عروبة الإخباري” ينشر سلسلة حلقات عن حياة الراحل ومسيرته الغنية في بناء الدولة العُمانية، والتي استمرت لنصف قرن استطاع فيها أن يضع عُمان على خارطة العالم المتفاعل، وأن يقدمها كنموذج للسلام والتعاون والشراكة في منطقتها ومحيطها العربي وبعدها العالمي.
لقد كان السلطان قائدا عظيما، التف حول جنازته ومشى خلفها قادة من كل دول العالم وبعضهم لم يلتق مع صديقه أو خصمه إلا في جنازة هذا القائد الذي ظلت سياسته تقبل القسمة على الجميع، ويرى فيه الجميع رجل محبة وسلام وعطاء.
الحلقة الثانية .. ومن هنا تبدأ الحكاية
عُمان اليوم تبرز نموذجا في الجزيرة والخليج ، وشريكا أساسا حريصا في مجلس التعاون الذي كانت فكرته والسعي إليه “عمانية” بامتياز وتبرز مسؤولة حين يتهرب الكثيرون من المسؤولية؛ لتكون من يستشعر أمن المضيق الشهير ( هرمز ) ومسؤولية حماية واجهات بحرية عريضة في المحيط الهندي وبحر العرب .
ظلت عمان تحميها عبر عصور قديمة ، حين كان المحيط قبلتها الأمنية الاستراتيجية لجغرافيا تقع بين البحر والصحراء وتنبت الجبال القاسية الصماء التي تبلورت فيها الدعوة الإسلامية الصادقة وحمت نفسها من الاقتلاع والتبعية والاستعباد.
حملت عمان وثائقها معها حيثما توجهت وهي حين تتكلم في مجالسها وحيث شراكاتها لا يقوى أحد من أغنياء الغفلة أو من محدثي النعمة أو ممن نشأوا بقرار قبل ( سايكس بيكو ) أو بعده أن يقاطعها إن رغبت أن تسمع فذلك من صفاتها وأخلاقها ، وإلاّ فإن أحداً لا يستطيع أن يعلمها دروساً في الكفاح والصمود والذود عن الكرامة والهوية والاستقلال والانتساب إلى التاريخ المكشوفة أوراقه .
ولذا رأينا العمانيين وهم يتمتعون اليوم بسياسة متزنة فيها الحياد الإيجابي والموضوعية والوعي واستلهام التاريخ والحفاظ على الجغرافيا كيف يتحدثون ويحرصون ويكون لديهم فائض الوقت والجهد لصناعة وساطات بين الأشقاء المحتربين أو المتخاصمين وبين المختلفين على وقائع أو مناطق حدودية أو مصالح مؤقتة ، وقد لفت انتباه الدول والقوى السياسية والمراقبين والشعوب قدرة عمان على أن تلعب دور المصالحة وأن تكون نزيهة وموضوعية لا تتطلع لأجرة من رأس المال ، ولكنها تنتظر الثمار والنتائج لتنعم مع غيرها بالاستقرار ، والأمن الذي هو شعارها ومقصدها من عملها لأنها لا ترى التنمية وإسعاد شعبها والشعوب في جوارها إلاّ بذلك ولذا اتخذت الحوار وسيلة وآمنت به وجعلته ديدنها فالسلاح ينضب والحروب استثناء والحكمة هي الأساس وهي ضالة المؤمن ” ومن أوتي الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا” ..
السلطان قابوس ينطلق من ذلك ويرى أن دوره في أمته ايضاً كدور الحادي ، ودور المنقذ والمنبه الذي لا يتدخل قسراً ولكن يأمر الناس بالمعروف بعد أن يأمر نفسه فهو لا ينهى عن أمر ويأتي مثله ، وانما يريد تقديم القدوة والنصيحة ويرى أن الذين لم يدركوا الحكمة ولم يأخذوا بها وضلّوا السبيل فإن حاله معهم كحال الشاعر الذي قال :
أمرتهموا أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلاّ ضحى الغد
ومع كل ما سجلته السياسة العمانية التي انطلقت من المصلحة العمانية من ملاحظات على نفسها وغيرها إلاّ أنها لم تصاحبها العداوة ولم يصبح فمها مرا ،ً ولا تعبيراتها نابية بل بقيت تؤمن بالسلام والحرية حتى لأعدائها وشعارها لخصومها الداخليين “اذهبوا وأنتم الطلقاء” بعد تمرد ظفار ولجيرانها الذين حاربوها في جنوب اليمن ، وفي ظفار أن طبّعت معهم العلاقات وأرسلت لهم السفراء وحتى تداخل الحدود وضبايتها في الخريطة العمانية البكر التي استمهل السلطان رسمها على الخرائط بصورة قاطعة كما تبدو اليوم فإن المفاوضات المبكرة لترسيم الحدود مع الجيران في السعودية والإمارات العربية المتحدة ، واليمن جاءت لينة متسامحة مع الشقيق وأرادت سحب الألغام من طريق العلاقة مع هذه الدول لتتمكن من مواصلة انطلاقة النهضة التي كان السلطان قابوس يختزنها فكراً قبل أن يحققها تطبيقاً ، وإنجازات على الأرض أبهرت ليس العمانيين الذين صنعوها ولكن الجيران الأغنياء والدول التي تعاملت مع دولة صادقة في التجارة والسياسة على حد سواء
وقصة الحدود قصة ذكية لو جرى الاحتكام للحظتها شديدة القسوة لقال قائلهم ” علام نرضى الدنية في حدودنا ووطننا ، ” ولكن أفعال السلطان يومها كانت الحسنة بعشر أمثالها دون دفع لأن رفع تلك العقبات وإبطال تلك المتفجرات ستفتح الطريق أمامه بلا معوقات لمواصلة الإقلاع باتجاه بناء عمان ولأنه كان يدرك أن الإعداد المسبق قبل الرحلة أفضل من انقطاعها وصرفها عن أهدافها ، ولذا فإن تسوية الحدود مع جيرانه والكرم لصالحهم في تأكيد هذه الحدود وإعادة رسمها سوف يمكنه أن يأمن عدم وقوع مفاجآت أو نزاعات أو خصومات تودي بانجازاته اللاحقة أو تؤثر عليها أو تعيقها وأن تعطي خيرٌ من أن تأخذ ولذا فإنه مسح مافي النفوس من ضغينة وهدأ روع الأعراب العابرين والخارجين ، وأمّن مصالحهم وأعطاهم أكثر مما توقعوا وسد ثغرات كان يمكن أن يأتي منها المزيد من ريح السموم ، فكانت الحدود منافذ فيها سلام وكان الداخلون عبرها يدخلونها بسلام ، ويخرجون كذلك ونفوسهم راضية وهو ما عبرت عنه الزيارة الأولى للشيخ زايد بن نهيان رئيس دولة الإمارات الناشئة آنذاك ، والزيارات الأخرى المتبادلة للدول الجارة التي لم ينازعها السلطان على حدود حتى غدت الخريطة العمانية الآن نافرة الملامح محددة متراصة موحدة الجغرافيا حاضنة للتاريخ مشعة بالمستقبل .
كان على السلطان قابوس أن يتفرغ لمهمة بناء عمان المستقبل لتكون أهلاً لحمل التاريخ التليد وشريكا معاصراً يتقن لغة العصر ويشارك في بناء الحضارة العالمية بلا تحسس أو عقد ، وكان هذا التفرغ مشروعاً ذاتياً حمله السلطان منذ أن اقلعت طائرته للدراسة في بريطانيا وحين كان يزحف في معاناة التدريب العسكري ، وتطبيقاته في ألمانيا بعد التخرج في سانت هيرست وحين كان يبحر يجول العالم في رحلته الطويلة قبل أن يعود إلى مسقط رأسه ويحتفي مع أمه بتخرجه ويبلغ والده عن افكاره وهمومه واهتماماته وهو مالم يرق للوالد حين رأى الأمير القادم يحمل نفساً تغييريا ،ً ويريد قلب الأمور المستعصية رأسا على عقب لينقذ عمان والعمانيين من الاختناق والظلام وهو ما أشار إليه في بيانه الأول وفي وعده الأول للعمانيين كافة .
ومنذ اللحظة الأولى التي وطأت قدم السلطان قابوس أرض مسقط العاصمة حيث غير تسمية الكيان السياسي وغير العلم وألوانه بدأ التفرغ ليكتب عنه أنه كان يوصل الليل بالنهار ويسهر ويخطط ويمثل عمان في الخارج ويتابع ويلتقي بمواطنية باستمرار ، ويخصص لهم في الأرياف والنجوع والبوادي شهرا في السنة ليلتقيهم في سنة حميدة هو صانعها حيث يلتفون حوله ويسمع لهم ويستمعون إليه فيناقشهم في الصغيرة والكبيرة ، ويحمل أفكارهم وشكواهم وهمومهم إلى المسؤولين المتنفذين معه ليضعوا ذلك في حسبانهم وفي خطط وزاراتهم وبرامجها وأجنداتها ، فما استلزم من القضايا سرعة الإنفاذ جرى إنفاذه قبل أن يعود السلطان إلى قصره بعد جولته وما تطلب إدراجه في الخطط السنوية أو الخمسية وضع أيضاً .
من كتاب سلطنة وسلطان .. أمة وقائد / المؤلف سلطان الحطاب
يتبع الحلقة الثالثة ..