صفقة القرن: الجذور والمواجهة منيب رشيد المصري

صفقة القرن الهادفة أساسا إلى القضاء على حقوق الشعب الفلسطيني وإلى تسييد “دولة إسرائيل” على المنطقة العربية بشكل كامل وجعل “إسرائيل” قوة عسكرية واقتصادية ذات بعد اقليمي وعالمي، لم تكن وليدة لحظتها أو من اختراع الرئيس ترامب، بل جاءت في سياق عمل مخطط له وعلى مدار عقود كثيرة، ولادتها الأولى بدأت بتغيير المحتوى الديني للتوراة، وهي أساس كافة النصوص اليهودية المقدسة، وتزوير هذا المحتوى الديني بالحذف والإضافة والتعديل ليتواءم مع أطماع “اليهود” وقناعاتهم بأنهم شعب الله المختار وأسياد هذا الكون.
سخّرَ “اليهود” قصص التوراة وما حيك حولها وعليها من قصص تاريخية شابها التزوير والتحريف، لخدمة هدفهم في إقامة “الدولة اليهودية” من النيل إلى الفرات، ومزجوا ما يؤمنون به من تعاليم العهد القديم “التوراة” والتلمودية بالايدلوجيا الصهيونية وأنتجوا “يهودية” غريبة بإبعاد تاريخية مُحرفة وأيدلوجيا قائمة على أساس نفي الآخر واستعباده والغاءه حد القتل.
هكذا كانت جذور صفقة القرن وبدأ تنفيذها العملي، وإن كان بمسميات أخرى، بالتحضيرات لإيجاد “وطن قومي” لليهود منذ أواسط القرن الثامن عشر، وتوجت هذه التحضيرات بعقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل عام 1897، الذي وضع حجر الأساس لوطن قومي لليهود، وحدد المؤتمر ثلاثة أساليب مترابطة لتحقيق الهدف الصهيوني، وهي تنمية استيطان فلسطين بالعمال اليهود الزراعيين، وتقوية وتنمية الوعي القومي اليهودي والثقافة اليهودية، واتخاذ إجراءات تمهيدية للحصول على الموافقة الدولية على تنفيذ المشروع الصهيوني.
عملت الحركة الصهيونية على تجنيد المجتمع الدولي وتحديدا الدول العظمى في حينها لدعم توجهاتها بإقامة “الوطن القومي” التي بدأت فكرته ما قبل مؤتمر بازل بكثير أي منذ الأسر بابلي على يد نبوخذ نصّر (منذ اكثر من 600 عام قبل الميلاد)، وأخذت في العام 1917 وعد بلفور من وزير الخارجية البريطاني الذي دعم وأقر بإقامة “وطن قومي” لليهود في أرض فلسطين، واشتمل صكّ الانتداب على فلسطين، الذي وافق عليه مجلس عصبة الأمم في 24 تموز عام 1922، على التزام بريطانيا بالمشروع الصهيوني بالعبارات ذاتها المبيّنة في وعد بلفور، وكان للحركة الصهيونية ذلك عام 1948، حين تم الاعلان عن قيام “دولة إسرائيل” على أرض فلسطين بعد عمليات القتل والتهجير لسكانها الأصليين المرتبطين بهذه الأرض منذ العصر الحجري بحسب المؤرخين الموضوعيين والمحايدين.
استطاعت الحركة الصهيونية أن تحقق حُلمها في إقامة نواة “الدولة اليهودية”، واستطاعت أيضا أن تفتح الطريق نحو استكمال مشروعها الاحتلالي القائم على أساس تركيبة تاريخية دينية عجيبة، من خلال علاقاتها مع بعض الأنظمة العربية، وأيضا من خلال المساهمة في نشر الفوضى في دول عربية أخرى، كما استطاعت استخدام “السلام” مع الفلسطينيين لصالحها حيث وظفت كل قدراتها وعلاقاتها باتجاه اثبات عدم قدرة الفلسطينيين على إدارة انفسهم وبالتالي انعدام حقهم في إقامة دولتهم المستقلة، وبالتوازي عملت على زيادة عدد المستوطنات في الأرض المحتلة حتى بلغ عددها أكثر من 120 مستوطنة تضم حوالي نصف مليون مستوطن في مخالفة صريحة لاتفاقيات جنيف الأربع التي تمنع نقل سكان الدولة المحتلة إلى أراضي الدولة التي تحتلها. كما استطاعت دولة الاحتلال أخذ اعتراف الإدارة الأمريكية بأن القدس بشرقها وغربها هي عاصمة لها، وقبلها اعتراف أمريكي بيهودية الدولة، وبذلك تكون قد استكملت أهم حلقات مشروع الدولة اليهودية من النيل إلى الفرات.
هذا السرد التاريخي المختصر جدا يبين جذور صفقة القرن التي لم تأتِ من فراغ بل وفق خطة موضوعة منذ القِدم، ويتم تنفيذها على مراحل دون ابطاء وبدعم دولي، وبخاصة أن دولة الاحتلال استطاعت ومنذ بدايات القرن الماضي باستخدام “المسيحية الصهيونية” لخدمة خطتها لا بل كجزء رئيسي في اصباغ الطابع الديني عليها وتوظيف الدين والتاريخ في خدمة هدفها.
نحن كفلسطينيين مؤمنين بالسلام العادل والشامل والدائم حاولنا الكثير الكثير وقدمنا تنازلات من أجل “السلام” كان أهمها موافقة منظمة التحرير الفلسطينية وعلى رأسها القائد الراحل الرئيس الشهيد ياسر عرفات على دولة فلسطينية بحدود العام 1967، أي دولة على 22% تقريبا من فلسطين التاريخية، واعترفنا بـــــ(دولة إسرائيل) ضمن اتفاق أوسلو، وحاولنا الكثير مع قادة “المجتمع الإسرائيلي” من أجل تحقيق حل الدولتين، ودخلت أنا والعديد من الإخوان الفلسطينيين والعرب وبمساعدة المنتدى الاقتصادي العالمي في حوار مع إسرائيليين وازنين اقتصاديا وسياسيا لقرابة ثلاث سنوات ضمن مبادرة كسر الجمود من أجل الوصول إلى دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران للعام 1967، بعاصمتها القدس الشرقية، وضمن مبادرة السلام العربية للعام 2002، التي وافقت عليها 57 دولة عربيه واسلامية إلا أن هذه المبادرة “كسر الجمود” وبسبب عقلية نفي الآخر في الفكر الصهيوني لم تنجح .
في ظل هذا الواقع لا بد لنا نحن الفلسطينيون أن نعمل على عدد من القضايا من أجل افشال صفقة القرن (التي تحمل جذور تاريخية دينية منذ عقود)، والتي تبدأ بنفي الرواية الدينية التاريخية للحركة الصهيونية، من خلال دراسة شاملة يقوم عليها مجموعة من الباحثين من ذوي الاختصاص والخبرة والرصانة، وهذا ما يعمل عليه كاتب هذه السطور من خلال مشروع “أن نكون”.
الامر الثاني هو العمل على إبراز عدم قانونية وعد بلفور وما ترتب عليه من تبعات قادت إلى ما نحن عليه الآن، ويمكن البدء بهذا الأمر من خلال الترتيب لعقد محاكمة صورية يقوم عليها أبرز القانونيين الفلسطينيين والعرب والدوليين، وهذا الأمر على الرغم من تعقيداته وصعوبته إلا أنه ممكن ويجب أن يكون، وأيضا كاتب هذه السطور يعمل على إعداد محاكمة صورية من أجل النسف المعنوي للمشروع الاستعماري الصهيوني، كمقدمة لإنهاء الاحتلال، وتقديم كل من ساهم في هذا الفعل العدواني إلى المحكمة الدولية كمجرمي حرب.
لا يكفي فقط تبيان “الكذبة الصهيونية” ولا الجانب القانوني، لذلك لا بد من تحشيد الشعب الفلسطيني في كافة بقاع الأرض حول الفكرتين السابقتين من أجل كسب الدعم الشعبي في كل اماكن العالم باتجاه فضح الاحتلال وجرائمه بحق الشعب الفلسطيني وبحق الإنسانية بشكل عام، وقد تكون الفعاليات التي يمكن القيام بها متنوعة ومتناسبة مع ثقافة وعقلية كل بلد على حدى من خلال مراسلات أو اعتصامات أو مهرجانات أو رسومات أو غيرها من الأشكال الحضارية، لكن وفي ذات الوقت لا بد من الدخول في مواجهة مع الحركة الصهيونية في الخارج، وفي مواجهة من نوع آخر في أرض فلسطين التاريخية.
ندرك جميعنا بأن الوضع الفلسطيني الحالي لايساعد في تحشيد الفلسطينيين لأن الأساس الجامع لهم وهو منظمة التحرير الفلسطينية بحاجة إلى تفعيل وإعادة هيكلة أساسها الانتخابات التي من شأنها أن تعيد الحياة الديمقراطية لهذا الجسم الوطني الجامع وفتحها امام من يريد من مكونات النظام السياسي الفلسطيني بالانضمام إليها، وإنهاء الانقسام، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة إعادة النظر في أدوار ومهام وصلاحيات السلطة الفلسطينية التي تمثل أقل من نص الفلسطينيين، فنحن كشعب نؤمن بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الهوية المعنوية والإطار الجامع للكل الفلسطيني.
الطريق طويل وبحاجة إلى عمل وجهد استثنائي لمواجهة المخطط الاستعماري الصهيوني، والمواجهة بحاجة إلى خطة عمل فلسطينية علينا أن ننجزها أمس وليس اليوم ونتفق على مضمونها ونجند لها خيرة العقول الفلسطينية، وخيره العقول الداعمة للحق الفلسطيني من عرب وعجم، وإلا فسينطبق علينا المثل القائل “على أهلها جنت براقش”.

Related posts

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري