ما حدث صبيحة عيد الأضحى (11/8/2019) من اقتحام أكثر من ألف مستوطن للمسجد الأقصى بحماية كبيرة مدججة بالسلاح من قوات الاحتلال وشرطته، ورغم التصدي البطولي للمرابطين بالأقصى الذين تمكّنوا من تأخير وإرباك تطبيق المخطط الأصلي؛ يشكّل خطرًا جديًّا وتهديدًا فعليًّا لقدسية وإسلامية المسجد الأقصى والرعاية الهاشمية له، كونه يحاول تكريس مشاركة إسرائيلية في ملكية المكان كمرحلة على طريق السيطرة عليه.
جرى الاقتحام الجماعي للأقصى يوم عيد الأضحى لمناسبة مصادفة مرور “يوم خراب المعبد” في نفس اليوم، وهذا الأمر يحدث كل 40-50 سنة. يجب عدم المرور على هذا الحدث مرور الكرام، والتعامل معه وكأنه حدث استثنائي، أو غير قابل للتكرار، وإنما يجب التعامل معه بجدية ومسؤولية كونه ينذر بما يمكن أن يحدث إذا استمرت الردود الفلسطينية والعربية والدولية على الانتهاكات المتصاعدة ضد فلسطين وأهلها، والقدس والمقدسات بشكل عام، والمسجد الأقصى بشكل خاص، والمرشحة للتصاعد، على ما هي عليه.
ما يدعم ما سبق أن إسرائيل تسير منذ قيامها ضمن أهداف أساسية متفق عليها من مختلف الأحزاب. وظهرت على حقيقتها بوضوح أكثر منذ فوز اليمين الإسرائيلي في الانتخابات بزعامة مناحيم بيغين في العام 1977، وفوزه في معظم الانتخابات التي جرت بعد ذلك، حيث سارت من تطرف إلى تطرف أكبر، في نفس الوقت الذي تراجع فيه ما يسمى معسكر “اليسار والسلام” الذي أصبح هامشيًا، كما تحرك بمواقفه إلى منافسة اليمين، ما أدى إلى انزياح إسرائيل أكثر نحو اليمين الديني والسياسي، خصوصًا في عهد بنيامين نتنياهو الذي أعاد من دون تمويه طرح إقامة “إسرائيل الكاملة”، ورفض الحقوق الفلسطينية، بما فيها إقامة الدولة.
في هذا السياق يجري استهداف المسجد الأقصى بشكل مستمر ومركّز ومتصاعد، ورأينا كيف طرح رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود باراك “اليساري” بتأييد من الرئيس الأميركي بيل كلينتون مسألة السيادة الإلهية عليه، على أن تسيطر إسرائيل “قانونيًا” على ما تحت الأرض، والدولة الفلسطينية على ما فوقها، الأمر الذي دفع الرئيس الراحل ياسر عرفات إلى رفض هذا العرض، وما أدى إليه من فشل قمة “كامب ديفيد”، واندلاع انتفاضة الأقصى، التي استمرت ثلاث سنوات، بعد اقتحام أرئيل شارون وقطعان المستوطنين بحراسة مشددة من الشرطة وجيش الاحتلال للمسجد الأقصى في العام 2000، وشن العدوان على الفلسطينيين، وصولًا إلى محاصرة عرفات واغتياله.
منذ تولي نتنياهو الحكم مجددًا في العام 2009 أصبح اقتحام الأقصى ليس أمرًا نادرًا، ولا يقوم به أفراد معزولون متطرفون، أو مجرد أقلية من السياسيين ورجال الدين المعزولين، وإنما عمل سياسي مخطط ينفذ بشكل يومي، ويشارك فيه المئات والآلاف، إضافة إلى أحزاب دينية وسياسية مركزية ووزراء وأعضاء كنيست، وتوفر له الحكومة الدعم والحماية. كما يأتي تنفيذًا لمخططات معلنة لإجراء تقسيم زماني ومكاني للأقصى مثلما حصل في المسجد الإبراهيمي في الخليل، وذلك كمرحلة أولى على طريق هدم الأقصى وبناء “هيكل سليمان” بدلًا منه.
هذا القول ليس من قبيل المبالغة بهدف التهييج ولتحريك المدافعين عن الأقصى وحماته، والقلقين من تداعيات هدمه على امتداد المنطقة والعالم، بل بدأنا نشهد فعلًا تقسيمًا زمانيًا، حيث الأقصى مستباح من بعد صلاة الفجر حتى قبل صلاة الظهر.
من دون تهويل أو مبالغة، أصبحت الثقافة والأيديولوجيا والسياسة الصهيونية المركزية التي تستهدف هدم الأقصى سائدة، ليس داخل الحكومة الإسرائيلية فقط، وإنما خارجها في الأحزاب الأكثر تطرفًا. كما تجد لها أنصار بقوة في الإدارة الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترامب، وأركان حكمه الذين ينافسون حتى المتطرفين الصهاينة في التطرف، كما لاحظنا في تصريحاتهم وممارساتهم، التي وصلت إلى حد مشاركة كل من ديفيد فريدمان، السفير الأميركي في تل أبيب، وجيسون غرينبلات، أحد أعضاء فريق السلام المزعوم، في فتح نفق في سلوان، وتكرار الادعاءات بأنه دليل على وجود “الهيكل”، في حين أنه نفق روماني.
إنّ تصريحات نتنياهو المتكررة في الآونة الأخيرة عن حق اليهود في الصلاة في الأقصى، وتصريحات عدد من وزرائه عن التقسيم الزماني والمكاني، وحتى عن هدم الأقصى، وتصريح وزير أمنه الداخلي الذي دعا إلى تغيير الوضع القائم في الأقصى، وما قاله قائد الشرطة في القدس عن أنه لا يعرف شيئًا اسمه الوضع القائم، وما قامت به الشرطة من نصب الكاميرات التي أجبرت على إزالتها، وإغلاق باب الرحمة التي أجبرت على فتحه، ومن تدخل سافر في إدارة الأوقاف الإسلامية والرعاية الهاشمية، التي وصلت إلى درجة التدخل في تعيين الحراس، والسماح لهم بالدخول، وترميم وفتح مرافق جديدة، والإقدام على منع المصلين من الصلاة في الأقصى لمدة ثلاثة أيام متواصلة في العام 2017 أثناء هبة البوابات … كل ذلك يدل على أن استمرار ردود الفعل الغائبة، أو الباهتة، أو التي على عظمتها يغلب عليها الفردية وردة الفعل ليست كافية، ولا في مستوى خطورة الحدث، وستشجع دعاة بناء الهيكل على التقدم في طريق هدم الأقصى وبناء “هيكل سليمان” بدلًا منه.
ما نراه الآن مستحيلًا أو مستبعدًا جدًا يمكن أن يغدو أمرًا واقعًا بعد عام أو عامين أو أعوام عدة، ويمكن أن يتحقق من خلال حريق آخر للأقصى، أو من خلال عمل إرهابي تدميري ينسب الجنون لمن سيقوم به لكي لا يعاقب، كما جرت العادة. وهنا نذكر بأن بعد غد الأربعاء ستمر الذكرى الخمسين لحريق الأقصى، وأن هناك مناسبات دينية يهودية عديدة في هذا العام، مثل “رأس السنة العبرية”، و”عيد العرش” و”عيد الغفران”، يمكن أن تُستغل لتنفيذ اقتحامات أو اعتداءات أكبر على الأقصى.
على الرغم من الادعاء الإسرائيلي بأن ما يقومون به من اعتداءات على الأقصى هو تحقيق للوعد الإلهي، إلا أن الهدف الأكبر لما يقومون به ويسعون لتحقيقه هو هدف سياسي وليس ديني، وهو مواصلة جعل فلسطين دولة لليهود، لها دور استعماري استيطاني عنصري يستهدف المنطقة برمتها وليس فلسطين فقط. كما يستهدف طرد أكبر عدد ممكن من الشعب الفلسطيني إلى معازل في فلسطين وخارجها، واستكمال تهويد وأسرلة القدس وفلسطين كلها حتى يستكمل المشروع الصهيوني أهدافه، فهو يدرك أن مصيره الفشل إذا استمر حوالي سبعة مليون فلسطيني صامدين في فلسطين وحدهم في وقت لا يزال من في المنفى يحلم بالعودة، لذلك يسابقون الزمن لتوظيف اللحظة التاريخية الراهنة المناسبة لهم، فلسطينيًا وعربيًا، في محاولة جديدة لتصفية القضية الفلسطينية من خلال “خطة ترامب”، التي يمكن جدًا أن يكون مصيرها الفشل مثل سابقاتها إذا وفّر الفلسطينيون والعرب والأحرار في العالم كله مستلزمات إحباطها.
يضاف إلى ما سبق أنّ الأمور يمكن أن تتفاقم على هذا الصعيد حتى الانتخابات الإسرائيلية، إذ تتسابق الأحزاب الإسرائيلية على من هو الأكثر تطرفًا وعدوانية وعنصرية ضد الفلسطينيين وحقوقهم وأرضهم ومقدساتهم، للفوز بأصوات الناخبين الذين هم في معظمهم أكثر تطرفًا من قياداتهم، وخصوصًا أن الاستطلاعات تشير إلى عجز نتنياهو عن الحصول على الأغلبية التي تمكّنه من الحكم، وتحصنّه من القضاء الذي يلاحقه، ما قد يدفعه إلى ارتكاب مغامرات في اتجاهات عدة، يمكن أن يكون من ضمنها استهداف جديد للأقصى حتى لا يواجه نتائج فساده والدخول إلى السجن.
أما القيادة الفلسطينية، فتكتفي بإجراءات رفع العتب، ولا تجد في الغالب سوى بيانات الشجب والاستنكار واجتماعات اللجنة المشكلة لتنفيذ قرار وقف العمل بالاتفاقيات التي دخلت في نفق الضياع أسوة باللجان السابقة، في حين يبقى ملف الوحدة مغلقًا.
أما القوى والفصائل فعليها ألا تكتفي بالتهديد والوعيد بزلزلة الأرض تحت أقدام الاحتلال، وعليها الاستعداد والإقدام فعلًا على تنفيذ خطوات عملية متصاعدة تستطيع القيام بها، والاستعداد لعمل كل ما يلزم، بما في ذلك استخدام أسلحة المقاومة للدفاع عن الأقصى والقدس وفلسطين، خصوصًا إذا أقدمت سلطات الاحتلال على تقسيم زماني ومكاني للأقصى تمهيدًا لهدمه، وبناء “الهيكل” بدلًا منه.