لعبة الشطرنج في أزمة الخليج الدولية/ د. أحمد القديدي

ahmd-qdede

عندما كنا طلاباً باحثين في الدراسات العليا في جامعة السوربون، نتذكر قولة أحد أساتذتنا الكبار الذي يشرح لنا خفايا الإستراتيجيات في العلاقات الدولية في زمن مختلف عن زمننا، كانت فيه الحرب الباردة بين المعسكرين هي الطاغية، كان يقول لنا: “إذا أردتم أن تفهموا فن الصراعات بين الأمم وتديروا المفاوضات الدبلوماسية بين الدول عليكم بتعلم لعبة الشطرنج وهي من ابتكار الفرس منذ آلاف السنين، وهي تلخص عبقرية الأمة الفارسية في اختصار حرب كاملة في رقعة شطرنج صغيرة يتقابل حولها لاعبان (يرمزان إلى دولتين أو جيشين) ويمارسان فنون الدفاع ومهارات الهجوم في نفس الوقت ويضحي اللاعب منهما بالبيدق في سبيل الإيقاع بالقطعة الأهم وحماية الشاه وتحصينه إلى أن تنتهي المباراة حتما بانتصار لأحدهما وانهزام الثاني”..

وتذكرت هذه الحكمة وأنا أعيش أزمة كبيرة ومعقدة اندلعت بين إيران والرئيس ترامب (لا أقول الولايات المتحدة بسبب تركيبة السلطات في واشنطن وتوزيع القرارات بين الإدارة في البيت الأبيض والسلطة التشريعية في الكونغرس هناك حول أخذ القرارات السياسية الخطيرة وهو ما تضمنه الدستور الأمريكي الفيدرالي منذ قرنين ونصف القرن)، اليوم تتسارع الأحداث بشكل يومي وتتعقد العلاقات وتشتبك المصالح ولكن رقعة الشطرنج الدولية تظل هي التي ترمز للصراعات وكسب المواقع على الصعيد النفسي أولا وعلى الصعيد الدبلوماسي ثم لا قدر الله على الصعيد العسكري إذا اقتضى الأمر، نسجل أولاً أن الشرعية الدولية المؤسسة على معاهدة متعددة الأطراف (معاهدة الملف النووي الإيراني الموقعة في 14 يوليو 2015 في مدينة فيانا بين إيران ومجموعة ما يسمى 5 زائد واحد) تم نقضها من جانب واحد كان وقع عليها هو الجانب الأمريكي فأعلن الرئيس ترامب منذ ثلاثة أشهر الانسحاب الأحادي من المعاهدة..

وكما توقع الجميع رفض الموقعون الآخرون الانصياع لطلبات واشنطن واطمأنت طهران أن ظهرها مسنود إلى الخمسة المتشاركين في تحديد نسب تخصيب اليورانيوم المتفق عليها، بل إن الوكالة الأممية لمراقبة المفاعيل النووية بمدينة فيانا أقرت في تقريرين (22 ديسمبر 2016 و3 مارس 2017) أن طهران ملتزمة بتطبيق بنود المعاهدة وذلك بعد إجراء خبرائها زيارات غير معلنة للمنشآت النووية في إيران وخاصة مواقع تخصيب اليورانيوم، ومن أهمها: مركز رامانده ولشكر آباد، ومنشأة نطنز، وموقع دارخوين المشتبه في أنه معد للتخصيب، ومركز أردكان لتنقية خام اليورانيوم. ولإيران منجمان لليورانيوم هما منجم سغند ومنجم زاريغان. هذا من منظور القانون الدولي وهو كما نرى واضح لا لبس فيه، إلا أن معطيات سياسية أخرى نشأت من تاريخ توقيع المعاهدة إلى اليوم أهمها: وصول الرئيس ترامب إلى سدة البيت الأبيض عام 2016 وهو رجل من خارج السيستم السياسي التقليدي الأمريكي لكنه من قلب السيستم الرأسمالي الغربي ومنظومة بريتن وودس ثم هو نفسيا واجتماعيا رجل أعمال في طبيعته حب الكسب والربح المالي (الكاش) وهو مزاجي عرف عنه الاندفاع وردود الفعل دون اعتبار اللغة الدبلوماسية معيارا للسياسة أو واجب التحفظ حين يعتقد أن ما يتخذه من قرارات هو في خدمة الأمة الأمريكية برفع شعار (أمريكا أولا)، وأهم قراراته في مجال السياسة الخارجية تلك التي غيرت الموازين المتعارف عليها حول قضية الشرق الأوسط وقلبها الحارق القديم أي حقوق الشعب الفلسطيني لا كما يريده الفلسطينيون بل كما حددته منظمة الأمم المتحدة منذ اتفاقيات أوسلو ومدريد وكامب ديفيد أي حل الدولتين..

فقام ترامب بتغيير تلك الموازين بالاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لدولة إسرائيل المحتلة لأراض فلسطينية والمشيدة لجدار العار المرفوض أمميا والمستمرة في بناء المستوطنات وأخيرا خلال الأسبوع الماضي هدم البيوت والقتل خارج القضاء! المعطى الثاني الأخطر هو أن الرئيس ترامب مسنود بصهره ومستشاره (جاريد كوشنر) وبالصقر (جون بولتون) مستشاره للأمن القومي بدأ يطبق أجندة اليمين الإسرائيلي المتعصب بما يسمى صفقة القرن التي مع الأسف انخرطت فيها دول الحصار على قطر وهي الدولة الرافضة لبيع حقوق الشعب الفلسطيني وأصبحت أزمة الخليج هي الباب الذي يفتح لتبرير ضغوط لأسباب مختلفة وغير مقنعة على كل من إيران وقطر وتركيا، وهذه الضغوط تتدرج من التهديد بالحرب ضد إيران إلى الحصار المضروب على قطر إلى العقوبات المعلنة ضد تركيا ولكل دولة برنامج محدد من التصعيد لكن إرادة الأمم أقوى وإصرار أنظمتها على سيادتها ومصالحها تنتصر دائما، نحن واثقون من عدالة قضية الحقوق المشروعة ووجاهة نصرتها بعدم الخوض مع الخائضين في أسواق النخاسة السياسية لبيع الذمم وحصد الأرباح على حساب الحق والذين ينادون بإحراق المركب بمن فيه والعياذ بالله.

alqadidi@hotmail.com

شاهد أيضاً

رسائل بالأسلحة وردود راشدة* د.منذر الحوارات

عروبة الإخباري – غرق شهر نيسان هذا العام بالترقب والتوجس وتوقع ما هو أسوأ وربما …