السياسة الخارجية العُمانية تسير دائمًا حسب البوصلة الوطنية التي صنعتها الحكمة السديدة لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- وهي بوصلة بالغة الدِّقة لا تعرف التَّردد أو الارتباك، بل تُترجم سياسات راسخة عمادها الثوابت الوطنية الأصيلة، تتماهى فيها التطلعات والخُطط الوطنية مع المواقف الخارجية، وهذه الخُطط والمواقف لا تستهدف سوى التنمية التي تُحقِّق للمواطن ما يصبو إليه من استقرار ورخاء وتقدم.
ولذلك في كل مرة نرى فيها نُذر الحرب تطل برأسها على منطقتنا، نُدرك يقينًا أنَّ دبلوماسيتنا الرصينة ستحمي بلادنا من أي سوء، وستسعى لتجنيب المنطقة ويلات ومآسي لا طاقة لها بها، انطلاقاً من القناعة الراسخة بأنَّ عُمان هي محور السلام في هذه المنطقة المُلتهبة، والتي تشهد صراعات حوَّلت بعض بلدانها إلى براكين خامدة قد تثور في أي لحظة، والبعض الآخر يكتوي فعليًا بنيران الحرب الأهلية والفوضى وعدم الاستقرار والغرق في الأزمات الداخلية والخارجية.
وأول الثوابت العُمانية عدم التَّدخل في الشؤون الداخلية للدول، والالتزام بمسار التنمية الواضح الذي يعود بالنفع على الإنسان، فضلاً عن دعم جهود السلام والاستقرار ونزع فتيل التوتر بأي بقعة في الأرض. وتشهد المواقف المُشرفة للدبلوماسية العُمانية على هذه الجهود، في مُختلف الأزمات، قديمًا وحديثًا، وهو ما يدفع أطراف الصراع في بلدان عدة إلى اللجوء إلى الدبلوماسية العُمانية باعتبارها قبلة السلام ووجهة الباحثين عن الاستقرار والرخاء، وملتقى الفرقاء للجلوس على مائدة تفاوض ترسم لهم خارطة طريق يستطيعون من خلالها إعادة بناء أوطانهم، أو بلورة اتفاقات تحمي العالم من أخطار محدقة أو كوارث مُميتة.
ولا يُنازعني شك أنَّ الجهود العُمانية لإحلال السلام في العديد من الملفات الإقليمية قد حققت نتائجها الإيجابية والبناءة، فإذا نظرنا إلى الأزمة الليبية نجد أنَّ السلطنة نجحت في لم شمل أطراف الأزمة قبل سنوات، من أجل صياغة دستور لبلادهم، فضلاً عن توفير المناخ المُناسب لإعادة التفاوض حول مستقبل البلد وآلية التغلب على أزماته المُتعددة والمتشابكة. ولم تختلف الحال في الملف اليمني، إذ تمكنت الدبلوماسية العمانية من إقناع أطياف الصراع في اليمن بالقدوم إلى السلطنة وإجراء المفاوضات المباشرة وغير المباشرة فيما بينهم من أجل التوصل لحلول وتسويات لعدد من الملفات، علاوة على أنَّ الدور الحيادي المعهود لعُمان منح الجميع الثقة بأنَّ السلطنة قادرة على أداء دور فعَّال في أي موقف بنزاهة وحيادية، ولذلك نجحت جهود الوساطة العُمانية في الإفراج عن عدد كبير من المحتجزين لدى أطراف الصراع في اليمن، وتكللت بعودة البعض إلى بلادهم أو خروج عدد آخر للعلاج أو لدواعي السن والمرض، وغيرها من الأسباب الإنسانية وتحرص السلطنة على بذل كل الجهود من أجل إنهاء مُعاناة من يرزحون تحت وطأة ظروف قاسية.
وهذه الحيادية المعهودة للدبلوماسية العُمانية، هي التي منحت عُمان أوصافا مُتعددة تؤكد هذه الحيادية، فكم من تقارير قرأناها تشير إلى عُمان بأنها “سويسرا الشرق الأوسط”، وكم من مسؤول دبلوماسي أثنى على الجهود العمانية في حلحلة قضية ما، فضلاً عن الإشادة بعمق النظرة الحكيمة لدبلوماسية السلطنة، بفضل الرؤية الثاقبة لجلالة السُّلطان المعظم- حفظه الله ورعاه- والتي تؤمن وتضع في مقدمة أولوياتها إتاحة المجال أمام أي جهد يسهم في تحقيق السلام بالمنطقة.
ولقد شهدنا جميعًا مستوى التوتر بالغ الخطر الذي وصلت إليه منطقتنا خلال الأيام والأسابيع الماضية، وارتفاع منسوب خطر نشوب حرب إقليمية لمستويات غير مسبوقة، وحشود حربية ومعدات عسكرية تجوب المياه الدولية في الخليج، وأخيراً إسقاط طائرة مُسيَّرة.
خطر الحرب هذه المرة لن يكون على غرار ما حدث في سنوات من قبل، سواء في حرب الخليج الأولى أو الثانية أو حتى الحرب الأمريكية في العراق، بل إنها ستكون “حرب إبادة”، وهو وصف لا مُبالغة فيه، فالخطر هذه المرة سيكون شاملاً ومُدمرا ومؤثرا على كل دول المنطقة دون استثناء، فمن لم تصبه شظايا المعارك- لا قدَّر الله- سيكتوي بنيران الركود الاقتصادي والانهيار المالي للبورصات وهروب الاستثمارات، وربما يصل الأمر لما هو أسوأ. وهنا لا أريد- حقيقة- تصدير التشاؤم أو رسم صورة قاتمة، بل أضع رؤية واقعية لمآلات الأوضاع وتطورات الأحداث على الأرض، رؤية تدق جرس الإنذار من مغبة الانزلاق في هوة الحرب السحيقة، التي لن تبقي ولن تذر، وستأكل الأخضر واليابس.
إذن ما الحل؟
الحل يكمن فيما تدعو إليه الدبلوماسية العُمانية منذ فجر النهضة المباركة، حينما أعلنها جلالة السلطان المعظم- أيده الله- بأنَّ السلام طريق الاستقرار والرخاء في هذه المنطقة، التي تنعم بخيرات عديدة وتملك بلدانها مواقع إستراتيجية على خطوط الملاحة الدولية وتزخر بالموارد الطبيعية والبشرية التي تتيح لها فرص النهوض في شتى المجالات. الحل في أن تنأى كل دولة من دول المنطقة بنفسها عن التَّدخل في شؤون الدول الأخرى، أن تتوقف بعض الدول عن سكب زيت الأزمات على نيران الفتن، أن نسعى جميعًا لبناء توافق وإجماع إقليمي على ضرورة الحفاظ على المكتسبات التي حققتها دول المنطقة، وخاصة في مُحيط الخليج العربي، فما تحقق من تقدم ونمو على صعيد دول الخليج ينبغي صونه وحمايته مما يتهدده من أخطار. فالأوضاع التي بلغتها المنطقة اليوم لا يمكن السكوت عليها، وعمليات التسليح المليارية يجب أن تتوقف لصالح الإنفاق على التنمية، وملايين الدولارات التي تُهدر يوميًا في إطلاق الصواريخ ودانات المدافع ووقود الطائرات الحربية المُقاتلة، يجب أن تغير مسارها وتتجه إلى البناء والتعمير، والبناء هنا لا يقتصر على البناء العُمراني، فبناء العقول أولى وأجدر، وترسيخ ثقافة التعايش مع الآخر المختلف يتعين أن تتصدر أولويات الحكومات والدول، فضلاً عن بذل الجهود واتخاذ الإجراءات الكفيلة بالنهوض بوعي المجتمعات العربية، ففي الوقت الذي باتت فيه مجتمعات أخرى في الغرب أو في شرق آسيا تتطور بمخرجات الثورة الصناعية الرابعة، ما زالت شعوب في منطقتنا لا تملك مسكناً تعيش تحت سقفه، وطلاب لا يجدون مدارس يتلقون فيها التعليم المناسب، أو طريقًا يسيرون عليه للوصول إلى المستشفى لتلقي العلاج، وشعوب أخرى أنهكتها الحرب وتقف على شفا المجاعة والموت جوعاً!
فمن يدق طبول الحرب الآن ويُريدها نيرانا لا تهدأ، عدو يتربص بهذه الشعوب التي لا يُراد لها أن تلتفت إلى التقدم القائم على الإبداع والابتكار، هناك من يسعى إلى تعميق الجهل في منطقة الشرق الأوسط واستمرار الفوضى وعدم الاستقرار.
خلاصة القول.. السلام في عُمان قيمة مغروسة في النفوس وواقع تحقق على الأرض بفضل السياسات الرصينة التي رسمت ثوابتها الرؤى الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان المعظم- أبقاه الله- ووضعت لها مكانة مميزة بين الأمم، فكما كانت- ولا تزال- عُمان نقطة التقاء الحضارات والشعوب، ستظل محور السلام وجوهرة التنمية المتلألئة.