باسترجاع عاجل للسنوات العشر الفائتة، منذ أول صرخة من أجل الكرامة الموجوعة، منذ أول لهبٍ هبّ في جسد التونسي، محمد البوعزيزي، ليتحوّل جسده إلى مشعلٍ يقود الشعوب نحو الحرية، ومنذ أول رصاصة انطلقت واستقرّت في صدر أعزل، إلى اليوم، حيث يظهر الواقع مكشوفًا، بكل سوداويته ودمويته وسورياليته في منطقتنا المشتعلة، لا بد من الوصول إلى استنتاج، بقدر بساطته، مخيفٍ وخطير. إنه اليقين التام بأن ليست هناك إرادة دولية من أجل منح شعوبنا حق تقرير مصيرها، وحق أن تتحوّل نحو الديموقراطية، وأن تعيد بناء نفسها ومجتمعاتها وأنظمتها بما يتلاءم مع روح العصر، وما وصلت إليه البشرية في مجال العلوم والحضارة الإنسانية، وفي مجال الحقوق وبناء الدول، وكل ما كان يقذفه الإعلام في وجوهنا من أكاذيب حول نصرة الشعوب، وحول اجتماع النوايا لتشكيل لوبياتٍ صديقةٍ للشعوب المنتهكة، ليست أكثر من ذرّ الرماد في العيون، ليس فقط من أجل التضليل والتعمية عن المكائد التي كانت تفبرك في الغرف السرية، بل من أجل زيادة الألم والإمعان في تجذيره في الأرواح والنفوس، ألم القذى وألم النزيف وألم الجراح المفتوحة على الشمس، ولهيب الاحتراق وهباب البارود.
من أين يبدأ المراقب؟ هل خلّفت السنون الماضية وانتفاضات الشعوب أية فسحة للأمل؟ واقع رهيب يدفع إلى اليأس من إمكانية النهوض، حيث صار السلاح هو الذي يدير السياسة، وهو الذي يرسم الخرائط، من خرائط الطريق، أي طريق سوى طريق الأحلام الطموحة للشعوب، إلى خرائط الكيانات السياسية المرجوّة من وراء التحالفات والصراعات؟ دفعت فواتير باهظة، وعندما تكون أبهظ الفواتير ممهورة بالدم من دون الوصول إلى الغاية المرجوّة، بل بإهدار الدم وسفكه، ليس على مذابح الأوطان المأمولة، بل على مذابح العقائد والإيديولوجيا المتعصّبة الاستبدادية الشوفينية، فإن الانهيار يكون أفدح، ودويّه يصدع الأرض، ثم ماذا؟
ليس هناك وضع يبقى على حاله، إنه قانون الحركة، انطلاقًا من الذرّة، وصولاً إلى الأجرام السماوية. الحركة التي تنتج الطاقة والقدرة والخلق، ليس هناك من عدم، العدم فكرة ميتافيزيقية، وبماذا يفيدنا العدم ما قبل وما بعد؟ المهم هو الحركة، الصيرورة، التحقّق في كل لحظة، وليس ما مرّت به شعوبنا إلا حركة في خط بياني لم تنتهِ معادلته بعد، لكن الرهان الأخير يقع على إرادة الشعوب، الشعوب التي سترمي بعد تجاربها المريرة ومحنها الكارثية عن عاتقها كل من اعتلى أكتافها، ليصنع من نفسه زعيمًا يقودها، حيث يريد لا حيث تريد هي. ليس الزمن المقبل للنخب من أي جهة أتت، وإلى أي طرفٍ من أطراف الصراع، وبأي مشروعٍ تذرّعت وبأي أهداف صرخت. النخب التي أفرزتها هذه المرحلة، انتهى دورها وكان لا بد من أن تلعبه، لأنها المُنتَج الأكثر وفرةً من صنيعة مراحل الاستبداد والقمع والتضليل واستلاب العقول والإرادة، نخب صنيعة النصوص المقدّسة الدينية والوطنية والقومية، النصوص التي اعتقلت العقول، وأفرغت الضمائر من أي نورٍ وإيمان، حرقتها وزرعت في رمادها بذور القبلية والطائفية والتعصب الأعمى، والتمسّك بالهويات القاتلة، مرتهنة للخارج، كل الخارج الذي تآمر علينا، وقضى على أحلامنا. تلك النخب التي تتسوّل الأحضان والجيوب اليوم، بعدما أتخمت في السنين الماضية على حساب أحلام الفقراء وأمنهم وحياتهم ومستقبلهم، لكن الذين دفعوا فيما مضى لديهم حساباتهم المغايرة اليوم، في لعبة المصالح وصراع القمم عاتية القوة والجبروت والأنظمة الملحقة بها مستنسخة تجاربها، ليست هناك ثوابتٌ ولا قيم ولا أخلاق، هناك جشع وعماء فقط.
درب الحقيقة وعر، ومحفوف بالمخاطر، لكنه درب، باجتيازه، تنضج التجربة بما يقدّم من حقائق تمنح الكادحين في اجتيازه فرصة الفهم من التعلم، والتعلم يفرض نهج النقد، والنقد الذاتي بالدرجة الأولى، وتفكيك النصوص والتحرّر من أسرها، وإعادة النظر في البديهيات والمسلّمات. تجارب الشعوب لا تموت، مهما نزفت ومهما تعرّضت للعنف والتنكيل والاعتداء والتجريح، وكل أنواع العنف والدفع نحو خياراتٍ قسريةٍ، فإنها دائمًا ما تستبطن تحت نزيفها وتحت ظلال الموت المخيم عليها إمكانية لشيء حي لا يموت، جذوة تحت رماد احتراقها جاهزة للاتقاد من جديد. والحقيقة التي تستحق النضال من أجلها هي الحق، حق الشعوب في أن تحيا بكرامتها وإرادتها، وأن تبتدع حياتها.
الدلائل عديدة أمام أعيننا، البراهين على أن العالم بجبروت أنظمته المارقة لن يسمح لتجارب شعوبنا بالتحقق والنجاح، كان أملنا بعد اليأس الأسود الذي استحكم بصدورنا في السودان والجزائر، وما زلنا نصلي، كل إلى قبلته، من أجل أن تنجح تينك التجربتان، فنحن بأمس الحاجة إلى من يحيي الأمل في الصدور، أن يعيد إلينا ثقتنا بأنفسنا، لكن ها هو الدم ينبجس من عروق السودانيين أمام جبروت الطغيان، وها هو العالم الطامع الذي تعميه مصالحه وجشعه ولهاثه نحو المال والسلطة والاحتكار يعمل على إفشال إرادة الشعب السوداني، وفق القاعدة الذهبية التي اتبعها ويتبعها مع شعوب المنطقة، وكل المناطق المثيرة لشهيته. ممنوعة إرادة الشعوب، ممنوع الطريق إلى الديموقراطية، ممنوع الإحساس بالذات والكرامة. ألا تشكل كل تلك القرائن دروسًا علينا أن نستخلص منها العبر؟
سوف نستخلص العبر، هذا ما يقوله منطق الحركة، فلا وضع يدوم إلى الأبد، لكن يلزم هذه الشعوب بالدرجة الأولى نخبٌ جديدةٌ بدم جديد وروح أكثر سموًا واتساعًا، نخب تكون قد استفادت من الدروس، وتطهّرت من أدران المرحلة وسمومها وامتلكت ما يكفي من الخيال لتكون مراحل البناء واضحة في أفقها. نخب تستطيع أن تجعل مَن بقي من الشعوب يصغي، فقط يصغي، لصوتٍ آخر غير الأصداء التي تردّد رجعها في أعماقه، أن تعرف تلك البقية الباقية على حدود الانهيار أن روح الشعوب في شبابها بالدرجة الأولى، وأن حماية تلك الروح هي الخطوة الأولى في حماية الأمل، والحماية قبل كل شيء هي في تحصين مناعتها في وجه الأفكار المعلّبة الحارقة، ودفعها في طريق تحقيق ذات إنسانية منتجة.
شباب بلداننا دُفعوا إلى الموت العقائدي الحاقد، موت تلفّه غلالةٌ موشّاةٌ برّاقة اسمها الشهادة، الشهادة في سبيل الدين والشهادة في سبيل الوطن في الوقت الذي فُقد فيه الإيمان والوطن. وطن يتطلع إلى النهوض والبناء، ليس بحاجة إلى أيقونات ورموز وأبطال وبطولات خارقة، هو بحاجة إلى فكر وإبداع وإرادة وتصميم، وقبل كل شيء إلى الحرية، وكل هذا مكنوزٌ لدى الشباب، طاقات بدّدها القمع وكم الأفواه وخنق الحريات، أما آن لمحرقة الشباب أن تنتهي؟ وأن يعرف الشعب الذي يريد الحياة حقًا أن ليس بالشماتة تنتصر الأوطان، شماتة أبناء الوطن الواحد بموت بعضهم بعضا؟ وليس أيضًا بحمل السلاح في وجه بعضهم بعضا، تنتصر الأوطان بخاماتها البشرية، بطاقاتها المكنونة، تلك التي تبتلعها دوامة الحرب. كم اغتيل من هذا الجيل من طاقاتٍ إبداعيةٍ كان يمكنها أن تكون طبيبًا ومهندسًا ومعلمًا وقاضيًا وماهرًا وعاملاً ونجمًا كرويًا وفنانًا وكل الموارد التي تحتاجها الشعوب والأمم، لكنهم دفعوا دفعًا إلى حمل السلاح، وإلى أن يكون الموت خيارهم الوحيد؟
من قاع اليأس الغارقين في حمأته يخبر العقل بأن الملهاة السورية أوشكت على خواتيمها، قد يكون الانهيار مدوّيًا، لكن المنطق يقول إن مرحلة جديدة تنتظر أبناءها، وأن أبناءها بدأوا يفهمون الواقع ويتعلمون الدرس. سورية لم يقدّم لها أحد يد العون، بل أيادي الدمار والتجييش والثأرية هي التي امتدّت، وكذلك اليمن والعراق وليبيا وغيرها. يبقى أن يفهم السوريون أن تجربتهم كانت مريرةً، لكنها درس في الحياة، وأن الأنظمة التي صادرت الماضي، لا أمل منها، وأن المطروح إن لم يحمل معه بذرة الحياة الكريمة لكل السوريين، ومعها الحرية قيمة عليا، ليس غاية تستحق نقطة دم وحيدة من دمائهم، وأن صفقة القرن ترخي بظلالها السوداء على كل المنطقة، وأن من صدّعوا رؤوس السوريين بأنهم أصدقاء الشعب لم يقدّموا غير أدوات القتل، وتحطيم أحلام الناس الذين لا ذنب لهم غير أنهم تمسّكوا بحلمهم ونادوا بمشروعهم، لكن الحرية والديموقراطية هما العدو الأكبر لعروش المنطقة، المرتهنة أصلاً لأسيادها.