عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب-
حين يتكلم يوسف بن علوي ، ينصت الكثيرون ، فوراء الرجل خبرة عميقة حملتها السنوات الطويلة التي أمضاها في المسؤولية عن السياسة الخارجية العُمانية، فقد عاصر ملوكا ورؤساء وحروبا وأزمات وصراعات كما نجح في نقل الرأي العُماني للعالم وحمل كثيرا من الأفكار والمقترحات الدولية عبر السلطنة إلى دول عديدة في العالم .
لقد اطفأت الدبلوماسية العُمانية حرائق وخففت توترات وحاصرت أزمات ولا تزعم أنها نجحت في كل الأدوار والمراحل ولكنها ظلت تستثمر في السلام وفي كل ما هو انساني دون ادعاء أو مفاضلة ودون ليّ للحقائق أو قفز عليها ، لا يزعم أحد أن عُمان قد فعلت ذلك لوجه الله تعالى فقط وإنما ايضا لتظل الصورة العمانية المعكوسة من التاريخ وفي التاريخ حية نضرة مثمرة، ويظل فائض جهد الدبلوماسية العُمانية فاعلا ومنتجا..
لا تخشى السلطنة في سياستها الحيادية الايجابية ونهجها المتوازن الذي يعظم فرص السلام ويطفيْ الأزمات ويصفر الخلافات ، لا تخشى في ذلك لومة لائم ، فقد ظلت دائما صريحة لا تزيح النار على قرص هذا على حساب هذا .. وإذا كانت ثمة فائدة لعُمان وسياستها من وراء ذلك فهو لتعظيم الدور الذي تقوم به السلطنة وزيادة رصيدها التشاركي مع دول العالم التي تحترم النهج العماني وترى فيه فائدة .. حتى تلك الدول التي كانت تبدي ملاحظاتها على السياسة العُمانية بحكم الشراكة في مجلس التعاون الخليجي أو في الجوار أو في الإقليم لا تلبث أن تتفهم الدور العماني وترغب فيه لأنها تراه ناقلا لوجهة نظرها ومسوقا لها ومبقيا الباب مفتوحا في وجهها بعد أن تكون الأزمة أو المشكلة قد غلّقت الأبواب.
لقد سعت عُمان ونجحت في قضايا كبيرة وحتى أخرى جانبية قد يراها البعض صغيرة ولكنها كانت مفاتيح لقضايا كبيرة و”عربوناً” مبكراً لدخول عُمان إلى قضايا كبيرة ، وهنا نصف ما ساهمت فيه السلطنة من خلال دبلوماسيتها الهادئة والمثابرة والناصحة في اطلاق سراح معتقلين وأسرى أو جرحى وفي نقلهم وحمايتهم أو علاجهم أو إيوائهم، حتى وهي متأذية من سياسات سابقة من قادتهم أو بلدانهم ، فقد كانت السلطنة تُصفر خلافاتها وتضع عيونها إلى الأمام وترى أن الحلول فيها تضحيات وفيها ملاقاة للخصم في منتصف الطريق أو قدرة على سماع رواية ألآخر حتى النهاية لتفكيك الرواية أو إعرابها وحتى مساعدة الخصم أحيانا ليتبصر الحل.
حين سألت بن علوي عن نتنياهو .. كيف يمكن التعامل معه ؟ ابتسم وقال نعم يمكن وإلّا كيف نريد أن نخرجه من خندقه الذي يتمترس فيه وأن يغادره إلّا إذا قدمنا شيئا يمكن أن يجسّر مع موقفه أو ساعدناه ليتفهم موقفنا أي موقف الطرف الآخر.. لأنه إن تمسك كل طرف برأيه وتمترس فيه لا تقوم مفاوضات ولا تتطور أي قضية وتبقى مرهونة للماضي، ويبقى مهمة المتحاورين أن يذهبوا إلى الماضي وأن لا يعودوا منه للذهاب إلى المستقبل.. ورغم بساطة الرؤية التي ينطلق منها الوزير بن علوي دائما ، إلا أنه صدمني بها حين ضرب على ذلك أمثلة ناجحة..
من يستمع إلى بن علوي يدرك كم لديه من منطق وقدرة على الحركة حتى في أصعب المنعطفات وأعقد القضايا ، وكثيرا ما كان يختار أصعبها ليبين أنه لا صعوبة إذا كانت إرادة الانسان تريد الحق والسلام والتعاطي معهما..
كان بن علوي في وارسو يمثل عُمان وهو لم يكن مع وارسو قلبا وقالبا، فقد كان له فيه رؤيا وفلسفة ، فليس معقولا أن يكون في وارسو ليكون ضد إيران، وليس معقولا أن يكون في وارسو وضد الشرعية الدولية التي تؤمن بحل الدولتين والقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية..
وليس معقولا أن يكون في وارسو ولا يقلق على الحال اليمنية، وما قد تسببه الأزمة اليمنية من حرائق لن تكون بلاده في منأى عنها..
وإذا كان الحياد الايجابي والتوازن هي فلسفة الدبلوماسية العُمانية وبعض ثوابتها، فإن ذلك لا يمنع من المشاركة بأشكال مختلفة وخاصة في المسألة اليمنية، حيث استقبلت عُمان كل الأطراف المتصارعة على المستوى السياسي وحتى الانساني بالعلاج وقدمت المساعدات للشعب اليمني دون تفضيل خندق على آخر، ودون تدخل لصالح طرف على الآخر، ولم تبخل بالنصح والتحذير من التورط في الوحل اليمني أو الذهاب بعيدا في محاربة شعب اليمن .
والسلطنة لا تؤمن بالانقلابية في التفكير ولا بحرق المراحل أو الحسم العسكري والأمني ولا بالتحشيد أو المغامرات وبناء الاحلاف كما هو الحال في ما سمي بالتحالف العربي أو في عاصفة الحزم أو محاصرة قطر.
والسلطنة في ذلك لم تعدم أصدقاء ومؤيدين لمواقفها حتى داخل مجلس التعاون وكثير من الاطراف التي لم تر السلطنة على حق لم تلبث أن رأت في موقف السلطنة الموقف الأفضل والأكثر تماسكا ورؤية.
أعود إلى الجديد .. إلى فلسفة الدبلوماسية العُمانية التي تعمل باستمرار على تنظيف التراكمات ومنع استدعاء الصور التي تحمل الشك أو الريبة ولذلك تلجأ هذه الدبلوماسية إلى شرح نفسها بسرعة ودون خشية من أحد أو احتساب غضب أحد .. فالسلطنة على لسان وزير الشؤون الخارجية العُماني تكلمت عن زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو إلى مسقط وكذلك زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس.. وأسباب الزيارتين ودورها لا كوسيط وإنما كناقل وشارح وموفر البيئة للاستماع لوجهات النظر .
فالسلطنة ليست محايدة في الموضوع الفلسطيني وليست وسيطة أيضا .. إنها كما هي عليه للذي يريد أن يقرأ تجلياتها وليس على طريقة “ولا تقربوا الصلاة” أو استمرار عملية الاسقاط الجاهز على الموقف العُماني كما يجري عادة في تناول القضايا العربية بشكل لا علاقة للواقع القائم ومعطياته به..
الذين اصطادوا في تعكير المياه في وارسو وقبله وبعده، لن ينالوا من الموقف العُماني لأن له ثوابت ومعطيات ، ولأن العُمانيين قادرين على شرح موقفهم وتبريره وربطه بمصالحهم ومصالح المنطقة والإقليم والسلام ، ولذا فإن السلطنة كانت وما زالت مع حل الدولتين والقدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية في موضوع الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ، وظلت ترى ضرورة دعم الشرعية الفلسطينية ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية وقيادة الرئيس محمود عباس ، كما ظلت ترى في الانقسام مخاطر وظلت ترى في السياسة اليمينية الاسرائيلية خطرا وصفه بن علوي بقوله: “لا أمان لإسرائيل إلا بقيام الدولة الفلسطينية”. ومقابلة بن علوي مع تلفزيون “روسيا اليوم” واضحة لا تقبل اللُبس.. والذين حاولوا تصويره في الممرات الخلفية وهو يلتقي مسؤولين اسرائيليين لن ينالوا من مواقفه الواضحة التي يقولها سرا وعلنا وأمام الاسرائيليين ورئيس وزرائهم وخلف الاسرائيليين وأمام الفلسطينيين ، ومع قيادتهم التي زارها ودخل البيوت من أبوابها وليس من الباب الاسرائيلي أو ممن عملوا على استبدال القيادة الفلسطينية أو التشكيك بها..
لسنا بحاجة للدفاع عن مواقف السلطنة لوضوحها ولها مصلحة في حضور وارسو حتى لا تحاكم على علاقاتها غيابيا ، فهي قادرة أن تدافع عن نفسها وأن تصلح الأخطاء التي يمكن أن تقع وأن تصد أطرافا قد تكون سادرة في التطرف أو انكار حقوق الشعب الفلسطيني .. وحوار نتنياهو أو الجلوس معه لا يعني أن السلطنة تقبل الرواية الاسرائيلية في الحل أو في القدس أو في الصراع برمته.. وهي لا تقبل حتى الرواية الاميركية عن ايران وكانت من قبل قد أسست لرواية أخرى حين نجحت في عقد الاتفاق النووي الاميركي الايراني المسمى(5+1) .
والسلطنة تعمل في إطار مجلس التعاون ولكنها لا تقبله اتحادا اندماجيا يلغي هويتها وشخصيتها ومصالحها لصالح أي طرف, وهي لا تعادي من اجل الآخرين، ولا تصالح من اجل الآخرين، ولا تحارب من اجل الآخرين أو تهادن من اجل الآخرين، ولهذا ظلت تبرز موقفها حتى لا يتماهى فيما لا تؤمن به من مواقف، سواء على الصعيد الوطني أو حتى الإقليمي أو الدولي ..
ولا تعتقد السلطنة أن نتنياهو الذي أراد وضع العربة قبل الحصان, وان تُربط أمامه لتمنعه من الحركة, يمكن أن تأخذ بروايته أو تقبل تصوره حتى لو التقط الآف الصور المرسوم عليها ابتسامات أو قسّم آلاف ارغفة الخبز المغمسة وغير المغمسة, لان السلطنة تؤمن أو تصدق ما تفعله يدا نتنياهو وليس ما تذرفه عيناه أو يفيض به لسانه من عبارات سياسية ناعمة …
انفض وارسو ولم يطرح ثماراً وإسرائيل أرادت توظيفه للانتخابات الإسرائيلية وتخفيف الضغط الدولي عليها، وهنا يبرز ما حذر منه لقاء دبلن في ايرلندا حيث موقف الاتحاد الأوروبي المتجدد من إسرائيل وتحذيرها من إن لم تغير سياساتها إزاء الشعب الفلسطيني باستمرار احتلاله وقمعه ومصادرة أراضيه فإنها أي أوروبا ستبدأ الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة كما عملت النرويج, ولذا فإن انعقاد مؤتمر دبلن أهم من وارسو واصدق واقوى، وكذلك لقاء سوتشي الذي جمع إيران وتركيا وروسيا وأطراف أخرى … فالعالم الآن يعزل الولايات المتحدة التي أرادت أن تضع بيضها في السلة الإسرائيلية وان تروج للسياسة الإسرائيلية وان تتورط في مغامرات اليمين الصهيوني الذي يخطط باستمرار لزعزعة السلم والاستقرار الدولي.
إذن وكما قال بن علوي لتلفزيون روسيا اليوم: ” لا تطبيع بين السلطنة وإسرائيل” معتبرا أن قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، شرط لأية عملية سلام وفق القرارات والمرجعيات الدولية النافذة” ، وانه “ليس هناك مجال لإقامة علاقات مستقيمة أو مفيدة بين الدول العربية وإسرائيل إلا بقيام دولة فلسطينية وإسرائيل تدرك ذلك” .. إذن هذه هي الرواية العُمانية وهي صلب الرواية العربية الحقيقية الثابتة … وهو أي أن ” بن علوي” يقطع قول كل مشكك ” قطعت جهيزة قول كل خطيب”.
لقد عملت عُمان وما زالت تعمل في سبيل تحقيق روايتها وهي رواية المجتمع الدولي والشرعية الدولية، ورواية القيادة الفلسطينية التي تأخذ بالسلام وأسبابه: إذ ظل الوزير بن علوي وبتوجيه من قيادة السلطان قابوس يدعو إلى أهمية وجود رؤية واضحة تحقق اهداف الفلسطينيين وقيام دولتهم …قال ذلك في رام الله وفي المسجد الاقصى وكنيسة القيامة ، واستمع لذلك من الرئيس محمود عباس في مسقط حين زارها والتقى مع السلطان..
وعُمان لا تكتفي بالتصريحات ولا تتاجر بها بل تحملها وتحولها إلى مواقف سياسية ولذلك كان نتنياهو في مسقط يستمع إلى الموقف العُماني الذي لا يحتمل الوجهين ولا يُسرد في روايتين …
بعد وارسو يؤكد بن علوي على موقف السلطنة الثابت ولا يعنيه مواقف الآخرين من عرب وارسو ، ويقول بصوت واضح: (لا بد من إيجاد نظرة جديدة تضمن قيام الدولة الفلسطينية واستقرار المنطقة ونحن لا نتفاوض نيابة عن احد ولا نفرض على احد شيئاً لكننا نستجيب لمن يطلب منا المساهمة في تهيئة ظروف معينة, لقد قلنا لنتنياهو صراحة وبقوة لا أمان لدولة إسرائيل إلا بقيام الدولة الفلسطينية) .
بن علوي قالها بصراحة أيضاً ورد على الذين يعكرون الماء وتزعجهم صراحة السلطنة ومواقفها الحيادية حين لا تريد أن تكون في جيبة احد ولا تسمح لأحد أن يتكلم باسمها أو يوظف مقدراتها ” ليس هناك تطبيعا بين السلطنة وإسرائيل” ..
بن علوي الذي خبر المنطقة وتقلباتها وظل يشفق على الخطاب العربي العاطفي الذي يباع في أشكال متعددة بما يرضي الزبائن أو المخاطبين دون حلول ..
” أن ما يجري بداية النهاية لألعاب كبرى”
نعم قالها عن الأزمة السورية وكان هناك في دمشق حين جرى إعلان الحرب على دمشق من أطراف عربية ليس لها مصلحة سوى المشاركة في الزفة الدولية ومهرجان الزار الأميركي الإسرائيلي، لتنفضح بعد ذلك الرواية وينكشف مضمونها وحتى لا تذهب الأطراف بعيداً فهو لا يدعوها لقبول موقف السلطنة أو روايتها, وإنما إلى قبول المرجعيات الدولية وعدم تجاوزها وخاصة بين الإسرائيليين والفلسطينيين …
وهنا ادانة للموقف الأميركي في القدس وفي الحل لأنه نسف قرارات الشرعية الدولية واعتمد الموقف الإسرائيلي والرواية الإسرائيلية التي تريد الولايات المتحدة فرضها بالقوة وتسويغها في وارسو..
ووارسو في الدبلوماسية العمانية لا يعبر عن مواقف المشاركين فيما يتعلق بالملف الإيراني ومواقف إيران في المنطقة ولقد كتبت ذلك قبل وارسو وتحت عنوان وارسو( اللي استحوا ماتوا ) وها هو الموقف العماني يأتي تصديقاً واضحاً على ثبات السياسة العمانية ..
حتى وارسو العاصمة وبولندا الدولة ذهبت تشرح موقفها للأطراف التي يستهدفها وارسو كإيران وغيرها، ليقال أن الأرض والقاعة مستأجرة لصالح المؤتمر الأميركي، وان هناك رسالة من وراء طبيعة المكان أرادت الولايات المتحدة إرسالها إلى روسيا، تتعلق “بالجيوسياسة” أي أنها تعقد المؤتمر في عمق أوروبا الجديدة التي تراهن عليها الولايات المتحدة بعد ان خذلتها اوروبا القديمة التي اسمتها الولايات المتحدة بأوروبا “العجوز” والمقصود ألمانيا وفرنسا وغيرها ممن يخرجون الآن على الموقف الأميركي وينتقدونه ويحمّلونه المسؤولية في زعزعة السلام والاستقرار الدولي بشد اليد على حكومة نتنياهو ..
صحيح أن في وارسو ملكيين أكثر من الملك، ودول متحمسة لحرب إيران أكثر من أميركا، وحتى أكثر من إسرائيل وهي التي خاطبها نتنياهو”أن عليها أن تحارب حربه وان تغطي التكاليف وانه غير مستعد أن يحارب عنها.”
هذه الدول وموقفها في دعم الموقف الأميركي والإسرائيلي لا يعني الكثير ولا يغير من الحقائق الثابتة ولا يلغي صمود الفلسطينيين وإصرارهم على حقوقهم حتى لو لم يبق معهم احد إلا هم.
وحين يشهد بن علوي بالتاريخ ويقدم أوراق اعتماده به لإثبات النسب والأصالة والدور والأهمية فإنه يصفع من لا يسعفهم التاريخ أو لا يجدون لهم فيه رابطاً حين يمحص التاريخ الجغرافيا ويعيدها إلى ملكيتها ..
يقول بن علوي ذلك دون أن ينطق به فالتاريخ سلاح فتاك حين يتمسك به أصحابه ويوظفونه لسلام طريقهم وليس لحروب غرائزهم أو حين تأخذهم أموالهم بالإثم ..
أن إعادة ربط التاريخ بالجغرافيا ستجعل الكثيرين يصمتون فنطق التاريخ حاسم ولا يغطيه العدوان إن في فلسطين أو حتى في الخليج الذي تحافظ عليه عُمان كما لو كانت أمّه الشرعية في وجه ادعاء غير الشرعية بين يدي سليمان الحكيم !!