التصريح الأخير لجامعة الدول العربية الذي جاء لسان الأمين المساعد حسام زكي بأن لا خطط لمناقشة دعوة سوريا لحضور القمة العربية المقرر عقدها في تونس مارس القادم خلال القمة الاقتصادية المزمع عقدها في بيروت هذا الشهر، لا يحمل أي مفاجأة، ولا أي جديد، سواء بالنسبة لسوريا أو لحلفائها أو حتى لكل عربي يهمه أن يرى صدع العرب قد رُئب والشمل قد التأم؛ لأن عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية أصبح أمرًا خاصًّا بالقرار السوري المستقل والحق السيادي للدولة السورية. فإذا كان تعليق عضوية سوريا في الجامعة جاء في لحظة زمنية يمكن أن توصف بأنها غادرة وخادعة للكثير من ذوي الأوهام والأطماع والتجار والسماسرة الذين توهموا أن سقوط سوريا سيكون أسرع مما هو مخطط له، وأنه لن يدوم سوى أشهر معدودة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، فإن العودة لها شروطها وأدبياتها سوريًّا، مع أن العودة ليست هدفًا.
بغض النظر عن أن الوقت مناسب أم لا للعودة الطبيعية لسوريا إلى جامعة الدول العربية؛ لكونها إحدى الدول المؤسسة لها، إلا أن الدولة السورية ـ كما يبدو ـ ليست مستعجلة إلى العودة، كما لا تمثل لها أولوية ـ حسب فهمنا المتواضع ـ علاوة على أنه ـ وهذا الأهم ـ مثلما كان قرار تعليق عضوية سوريا في الجامعة أتى من خارج مجلسها ووفق الإملاءات التي تتلقاها الجامعة العتيدة بصورة مستمرة عند انعقاد قممها، فإن قرار الموافقة على عودة سوريا إلى الجامعة سيكون من قبل من أوعز بتعليق عضويتها.
والواقع من تابع جملة السياسات والمواقف التي اتبعها مجلس جامعة الدول العربية ضد سوريا، والتي واكبت مخطط تدمير الدول العربية والمسمى زورًا بـ”الربيع العربي” يدرك مدى الآلام وعمق الجروح التي أدمت سوريا ولا تزال تدميها وتعاني تقرحاتها المتمثلة في الإفرازات الإرهابية التكفيرية والخيانية ونزعات الانفصال، وتهجير ملايين السوريين من مدنهم وقراهم وأريافهم، والزج بهم في مخيمات اللجوء يلتحفون السماء بأمطارها وثلوجها، ويفترشون التراب والطين، ويواجهون الجوع بما يأتيهم من فتات المساعدات الإنسانية، في صورة أقل ما يمكن أن توصف نتائجها المؤلمة بأنه نوع من الانتقام من هذا الشعب القومي العروبي الكادح والصابر، فهناك من لا يزال يسمسر على تلك الملايين وبهم، ويستخدمهم ورقة ابتزاز، وفي الوقت ذاته يوظفهم سياسيًّا لمصالحه ولمشروعاته الاستعمارية، وفق صور متعددة منها منحهم الجنسية، وتغيير ثقافتهم وهويتهم وولائهم ليس لوطنهم سوريا عبر ذريعة منحهم حق التعليم الذي يتلقونه بلغة غير لغة الضاد.
طبعًا، ما كان ليصل الوضع المأساوي والكارثي بالشعب السوري بهذا المستوى من الامتهان لولا قرارات مجلس جامعة الدول العربية التي قضت بفرض حصار اقتصادي ظالم على الشعب السوري، وفتح صنابير أموال البترودولار لعقد صفقات شراء الأسلحة وتمويل التنظيمات المسلحة عبر العنوان الكبير المضلل والخادع المسمى “دعم الثورة والثوار”، في حين كانت كل الدلائل والوقائع تظهر بما لا يقبل مجالًا للشك أنه لا توجد “ثورة أو ثوار”، وإنما هنالك إرهابيون تكفيريون ومرتزقة وذوو سوابق إجرامية جيء بهم من أصقاع العالم باسم زائف “ثوار ومعارضة”، بينما لعبت أموال البترودلار دورًا تدميريًّا وتخريبيًّا في شراء الذمم والخيانات والعمالات ضد الدولة السورية، فكان حمَلَة الحقائب المعبأة بالأموال المشبوهة من ضباط أجهزة الاستخبارات يذرعون المدن والأرياف السورية لتحريضهم ضد وطنهم مقابل حفنة من تلك الأموال المشبوهة، التي نالت من العسكريين من رتب عليا ودنيا، ودبلوماسيين، وسياسيين، وعوام الناس وبسطائهم.
إن رطانة الحديث اليوم عن عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية وما سبقها من فتح سفارات وأعقبها من تنسيق واستطلاع لاستئناف تسيير الرحلات من وإلى مطار دمشق الدولي، كل ذلك ما كان لسوريا ولمحبيها وحلفائها أن يسمعوا ويشاهدوا لولا ما قدمته “شعبًا وجيشًا وقيادةً” من دروس في كيفية التعامل مع المؤامرات والمحن، وتضحيات جسيمة، ولا تزال تقدم على مذبح حريتها وسيادتها واستقلالها وقوميتها وعروبتها، وعزتها وكرامتها. فالجيش العربي السوري ـ الذي لا يزال على صدارة الاستهداف صهيو ـ أميركيًّا ـ غربيًّا ـ إقليميًّا وتغيير عقيدته ـ يواصل مسيرة نضاله ضد بؤر الإرهاب التكفيري التي فقَسَت وفرخت في المدن والقرى والأرياف السورية ولوثتها وأدمتها.. وما يندى له الجبين أن من أسهم في استشراء هذه الآفة من هم محسوبون على العرب والإسلام.
نعم، عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية ليست قريبة لأن شروطها لم تنضج بعد من وجهة النظر السورية، وإن كانت سوريا حريصة دائما على الوحدة العربية ولم الشمل، ونبذ الخلافات والفتن، وعدم معاونة الأعداء. فهذه العودة يجب أن تسبقها خطوات عملية للتكفير عن ما اقترف بحق سوريا وشعبها وجيشها وقيادتها، ومن هذه الخطوات رفع الحصار الاقتصادي الظالم، ورفع الحظر الجوي على سفر المسؤولين السوريين، والأهم، العمل مع الدولة السورية وجيشها على محاربة الإرهاب ومنع دعم تنظيماته، ولجم كيان الاحتلال الإسرائيلي عن هجماته الإرهابية المتكررة على سوريا. أليس أحد الأهداف اليوم التي يريدها كيان الاحتلال الإسرائيلي باستهدافه العاصمة دمشق ومحيطها، وتهديد الطيران المدني هو منع العرب من استئناف رحلاتهم إلى سوريا؟ أوليس من الواجب عليهم اتخاذ موقف يؤكد رفضهم لهذا العمل الإرهابي، وبرهنتهم على مصداقيتهم في استئناف الرحلات، لتكون مقدمة لعودة العلاقات، وجبر ما انكسر منها في لحظة زمنية غادرة وخادعة؟