يطرح إعلان الرئيس دونالد ترامب عن سحب القوات الأميركية من سورية مسائل عديدة على جميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، بمقدار ما تمثله الولايات المتحدة من وزن في جميع الساحات، وما يفرضه انسحابها من أي واحدةٍ منها على الأطراف من حتمية إعادة النظر في حساباتها، وربما في مشاريعها الكبرى أيضا، كما هو الحال اليوم بالنسبة لمليشيا حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) ومنظماته التابعة، من إدارة محلية، وقوات حماية الشعب، وقوات سورية الديمقراطية، وغيرها. وقد تباينت الآراء في أهداف هذا الإعلان وعواقبه أيضا، وفي المقام الأول داخل الإدارة الأميركية نفسها، فاضطر أكثر من مسؤول أميركي لتقديم استقالته. أما على الصعيد الدولي، فقد انتقد الفرنسيون صراحة، باسم الاتحاد الأوروبي، هذه الخطوة التي أبرزت، في ما وراء طابعها الإقليمي، مدى استهتار صاحب القرار في القوة الأعظم في العالم بحلفائه، إلى درجةٍ لم يشعر فيها بالحاجة، ولا بالواجب، لإعلامهم، فما بالك بمشورتهم والتنسيق المسبق معهم. وعلى المستوى الإقليمي، شعرت حكومات عديدة بالإحباط ذاته. وليس مؤكّدا أن تركيا التي وجدت نفسها مدفوعةً بواشنطن إلى التقدم إلى واجهة الصراعات الإقليمية تشعر بالثقة اليوم أكثر مما لو ضمنت وجود القوة الأميركية التي، وإن اختلفت معها في التكتيكات السياسية، تبقى قاعدة ارتكاز أساسية لسياستها الإقليمية. على الرغم من كل المخاطر التي يمكن أن تنجم عن هذه الخطوة، وأهمها، كما ذكرت التحليلات السياسية، احتمال عودة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) إلى لعب دور أكبر في سورية والمنطقة، وتنامي حظوظ طهران في تأمين طريقٍ سالك حتى المتوسط، من دون مصاعب تذكر، كما كانت تحلم دائما، وربما شعور نظام الإبادة الجماعية في سورية بأملٍ أكبر في استعادة جزءٍ جديد من الجغرافيا السورية تحت سيطرته، في الجزيرة السورية، إلا أنني أرى في هذا الانسحاب عنصرا تحرّريا، لما يمثله من خطوةٍ على طريق الخلاص من الوهم الكبير الذي تمثله القوة الأميركية العالمية، والرهان المدمر وغير الموثوق، الذي وضعته قوى اجتماعية وقومية كثيرة، وحكومات إقليمية وعالمية أيضا، على هذه القوة لتحقيق أهدافها، أو ما تعتقد أنه مصالحها الأساسية أو المستقبلية.
(1)
ولو رجعنا إلى نتائج التدخلات العسكرية الأميركية في العقود الثلاثة الأخيرة في المنطقة وجوارها، لرأينا أنها انتهت جميعا بكوارث نموذجية. هذه كانت الحال بالنسبة للتدخل الواسع النطاق في أفغانستان، والذي انتهى بتدمير الدولة والمجتمع الأفغانيين، وظهور حركة طالبان وتجذّرها، وقبل ذلك ولادة منظمة القاعدة على أيدي المجاهدين العرب الذين تُركوا لمصيرهم بين أيدي نظم فاسدة، ولا وطنية، تلقفتهم، واستخدمتهم لتبرير الاحتفاظ بسياسة القبضة الحديدية، وحرمان الشعوب من حقوقها الأساسية في أي نوعٍ من المشاركة السياسية، وقيادتها كما تكرش قطعان الماشية، بالضرب وتسليط كلابها عليها.
وهذه كانت أيضا حال سياسة محاصرة إيران الخمينية واحتوائها، التي جاءت على حساب دول المنطقة واستقرارها عموما، والتي انتهت بتحويل إيران إلى قوة توسع وتمدد وانتقام من جميع دول المنطقة المحيطة بها، وتهديد لأمنها وسلامتها. وهي كذلك حال مشروع إدارة الرئيس الأسبق، جورج بوش الابن، لإعادة هيكلة الشرق الأوسط الموسع، والذي أدى إلى غزو العراق وتدمير الدولة العراقية وزرع عوامل الحرب الأهلية في مجتمعه، وتقديمه لقمةً سائغةً لولاية الفقيه الإيراني.
وليست الحال أفضل من ذلك في استفراد الولايات المتحدة بالملف الفلسطيني الإسرائيلي الذي لم يساعد على التقدم خطوة واحدة في التوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ على أساس حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، كما كان قد بشّر به الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، عام 2011، ولكنه شجع تل أبيب على الاستمرار في سياسة التوسع الاستيطاني اليهودي الذي حبس الفلسطينيين ومشروعهم الوطني في سجن كبير اسمه غزة وحكومتها الذاتية، كما تقضي به صفقة القرن المشؤومة، وتكريس القدس عاصمة “أبدية” لإسرائيل.
وفي الحالة السورية، كان للأوهام التي غذّتها سياسات واشنطن دور كبير في دفع لاعبين كثر، إن لم يكن كل اللاعبين، إلى الخطأ في حساباتهم، وفي إيصال الأوضاع إلى درجةٍ من التداخل والاختلاط، أدخلت الصراع في تشابكاتٍ وعقدٍ لا يزال من الصعب تفكيكها والخروج منها. وها هي تترك “الملف السوري” الآن، بعد أن قوّضت جميع فرص التوصل إلى حل، وحولت الدولة إلى قلعةٍ تحاصر فيها، بدعم من طهران وروسيا، سلطة عاصية وطبقة/ عصابة، وشتتت المجتمع بين مناطق تسيطر عليها مليشيات أجنبية أو مدعومة من الخارج، ودفعت أبناءه إلى النزوح والبحث عن الأمن والخبز في قارات العالم الخمس.
أول الأوهام التي غذّتها الولايات المتحدة كان وهم الوقوف مع الانتفاضة الشعبية، ومعارضة بقاء رأس النظام، إن لم يكن النظام ذاته، عندما طالب الرئيس الأميركي بشار الأسد بالتنحّي. وهذا ما أعطى جمهور الانتفاضة الثقة بأن المجتمع الدولي ينظر ويشاهد ويقف إلى جانبه، ومن الممكن أن يتدخل في الوقت الذي يبالغ فيه الأسد بالإفراط في العنف، فهانت التضحيات عنده، وصارت المسألة بالنسبة له مسألة تحمّل وصبر وتصميم، حتى رمى نفسه قاتلا أو مقتولا في المعركة الدامية. لكن شيئا لم يحصل، والتصريحات الفارغة من المعنى والالتزام أعطت لنظام الأسد وحلفائه، في طهران وموسكو، الذريعة المُثلى لتشويه صورة كفاح السوريين التحرّري والبطولي، وخلطها بما أطلقت عليه المؤامرة الغربية والكونية، ثم المؤامرة الإرهابية، كما سهلت عليه شق صفوف الشارع السوري والعربي معا.
والوهم الثاني استراتيجي، فقد اعتقدت حكومات مجلس التعاون الخليجي، وفي مقدمتها قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، أن الانتفاضة السورية تقدّم لها فرصة تاريخية لوضع حد للتمدّد الإيراني في شمال الجزيرة من العراق إلى لبنان، وأن الولايات المتحدة هي حليفها الطبيعي والقوي لقلب الطاولة على طهران في سورية، واستعادة هذا البلد العربي من أيدي أسرة الأسد الحليفة لطهران. وهذا ما دفع هذه الدول إلى تسليم أمرها في دعم الانتفاضة السورية للأميركيين الذين استخدموا أموالها الوفيرة من أجل الحيلولة دون انتصار المعارضة، وفي سبيل البحث عن تسوية سياسية ليس للأسد أي مصلحة فيها، فتحكّموا بدرجة دعم الفصائل المعارضة ونوعه، وبالتالي بمصير الانتفاضة، إلى أن قطعوا في الوقت المناسب المعونات الضرورية عنها.
والوهم الثالث هو الوهم الكردي بدولة قومية، أو شبه دولة على حدود سورية الشمالية وتركيا الجنوبية. كان هم الكرد، في البداية، استخدام الظرف الصعب للمعارضة من أجل انتزاع اعترافها بالحقوق القومية الجماعية للكرد في سورية المقبلة. وكانوا في غالبيتهم مع الثورة، وشاركت شبيبتهم في مسيراتها السلمية، بالدرجة ذاتها. وكان من شأن التفاهم الكردي السوري أن يوحد السوريين ضد النظام، ويزيد من فرص الضغط الشعبي عليه، إلى أن توصل حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) إلى تفاهم مع الطرف الأميركي، وبدا التعاون “الاستراتيجي” واضحا بينهما، فانقلبت القاعدة الشعبية الكردية على قيادة المجلس الوطني الكردي الذي كان يمثلها في صفوف المعارضة، والتحقت بمشروع الاتحاد الديمقراطي الذي بدا وكأنه أصبح الحامل القوي لخيار الدولة الكردية الكبرى التي تبدأ بتحرير الشمال السوري حتى المتوسط.
(2)
تضخم الحلم مع تنامي الدعم العسكري في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتمكين قوات سورية الديمقراطية من السيطرة على مناطق واسعة، تشكل ثلث مساحة سورية، وهي المناطق التي تحتوي على الثروة الاستراتيجية الرئيسية للبلاد، وتقطنها أغلبية عربية. وما كان لهذا الوهم الذي غذته واشنطن، عن وعي أم لا، عند القيادات الكردية، أن لا يثير شكوك الأتراك والعرب السوريين أيضا، ويزيد من عزلة الكرد الذين وقعوا، في الحقيقة، ضحية تضخم أوهام قيادة الاتحاد الديمقراطي ومستشاريه من غير السوريين.
صحيحٌ أن الانسحاب الأميركي يوجه طعنة عميقة لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي حلم بدولة خاصة به في شمال سورية وشرقها، بقناع الدفاع عن الحقوق الكردية. ولكن لا ينبغي أن يعني ذلك القضاء على الحقوق الكردية، وليس من مصلحة السوريين التخلي عن الكرد، أو القبول بتهميشهم من جديد، ولن يكون ذلك ممكنا بعد اليوم. إنما لا شك في أن الاتحاد الديمقراطي حمّل الكرد السوريين، وهم أقلية صغيرة في سورية، وبين الكرد في باقي دول الإقليم، أكثر مما يمكن أن يحملوه، عندما فرض عليهم، متسلحا بوهم الدعم الاستراتيجي الأميركي، مواجهة تركيا وايران والدولة السورية، التي أراد أن ينتزع منها أهم منطقة استراتيجية، وأن يبني على حسابها دولة خاصة به، وبسلطة استبدادية لا تختلف عن سلطة الأسد. وما كان يمكن للسيطرة على أراضٍ واسعة، لا وجود للكرد في معظمها، ووضع اليد على مواردها الاستراتيجية، أن تفسره هذه الدول، بل جمهور الكرد ذاته، إلا تمهيدا لإقامة دولة مستقلة.
خروج الأميركيين اليوم يحرّر السوريين والخليجيين والكرد من الأوهام التي أنتجها وهم الرهان على وجود الأميركيين وعدم وجودهم في الوقت نفسه، أي أنانيتهم واستخدامهم الآخرين أدواتٍ لخدمة أهدافهم، والتخلي عنهم عندما تتحقّق هذه الأهداف أو لا تتحقق، لمصيرهم. فمن المفيد للسوريين أن يعرفوا أن أميركا ليست إلى جانبهم، ولن تتدخل لصالحهم، وعليهم أن يتعلموا أن يقلعوا شوكهم بأيديهم، وأن يستمروا في بناء قوتهم الذاتية، والضغط على جلاديهم، سدنة نظام القتل والوحشية، بجميع الوسائل للتخلص منهم. وبالمثل، سوف يُصاب الخليجيون دائما بالخيبة، إذا راهنوا على حماية الولايات المتحدة لهم. إنهم يبتزّون أموالهم، لكن عندما تأتي ساعة تسديد الحساب، ليس هناك ما يمنعهم من القول: لن نضحّي بشبابنا من أجلكم. ومن المفيد لكرد سورية الذين شكلوا دائما جزءا من نسيجها الاجتماعي، ونخبها السياسية والثقافية والعسكرية والتقنية، وساهموا في بنائها دولةً ومجتمعا، منذ تـأسيسها، أن يتخلصوا من وهم الدولة، أو شبه الدولة التي كادت تحولهم غرباء في مجتمعهم وبلدهم، وأن يشاركوا على قدم المساواة مع بقية السوريين في تحقيق مشروع سورية الديمقراطية، المقبلة حتما، والحاملة أحلام جميع السوريين.
ما سقط في إعلان الانسحاب الأميركي من شرق الفرات ثلاثة أوهام كبيرة، عاش عليها المشرق، وخربت حياته السياسية والإقليمية: وهم دعم واشنطن للديمقراطية العربية، ووهم الحماية الأميركية للخليج وثروته النفطية، وأمن باقي الدول العربية، ووهم تبنّي واشنطن، بسبب ديمقراطية حكمها، قضايا الأقليات القومية والدينية. وأعتقد أن خسارتنا جميعا، عربا وكردا وتركا وإيرانيين، رهاننا على الولايات المتحدة لتحقيق آمالنا، يشكل لحظة محرّرة ومخلصة، ينبغي تلقفها، لا من أجل إدانة الولايات المتحدة، والكشف عن عوراتها. هذا لا يهمنا، وإنما من أجل إعادة بناء حساباتنا على أسسٍ واقعية وحقيقية، ومد كل واحد منا “بساطَه على طول قدميه”. وتعلمنا، جميعا، مبدأ احترام حقوق الآخرين، والتفاهم معهم على كل ما يضمن تطبيقها، ويضاعف منها، ويعزّز وجودها. هذه هي الحقائق الوحيدة التي تخرجنا مما نحن فيه، عربا وعجما وتركا وكردا أجمعين. هكذا يتحول الانسحاب الأميركي من لحظة مليئة بالمخاطر إلى فرصة للتحرّر من الأوهام، مع العلم والأخذ بالاعتبار أن التحرّر من وهم الدعم الأميركي لا يعني للأسف التحرّر من أميركا. سوف تبقى أميركا أكبر مولد للوهم في العالم، لأنها لا تزال القوة الأكبر فيه، والأقدر على صنع السحر وتعليمه. إنما قوة أميركا لأميركا، وشقاؤها وخسارتها دائما من جيبنا وحسابنا. وعلينا وحدنا تقع مسؤولية التوقف عن الوقوع في حبائلها، وشراء الأوهام التي تصدرها للإيقاع بنا، والمتاجرة بأرواحنا.