عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
كان يمكن لسلطنة عمان أن تستمر في الحرد العربي، وان تدير ظهرها وتواصل حيادها وتتخلص من الشعور بالإثم ازاء القضية الفلسطينية كما فعل الذين ما زالوا يتربحون بالقضية ويزايدون ويدبحون الخطب والمقالات ويمولون الفضائيات ويسرجون خيول الوهم، وهم يرون غزة تغرق في الجوع والعري والعتمة، دون أن يقدموا لها شيئاً طالما لم يقل الساحر كلمته ولم يُشر بإصبعه أن يفعلوا .
سلطنة عُمان ليست مدينة لأحد حتى تفعل، وإنما تنطلق من رؤية إنسانية وقومية وإسلامية ووطنية حين ترى أن حالة الضياع والارتهان والانكار هي كل المواقف العربية التي يعّبر بها في خطابات الجامعة العربية منذ أن أصبح النظام العربي مضبوعا يحدد له الاغيار مكان قبلته ومضمون صلواته وتغيير أهدافه وقد أسرجت الخيول المتعبة باتجاه إيران بدل إسرائيل وضاعت البوصلة ليصبح العدو صديقاً والصديق عدواً وتستنزف الأموال العربية في معارك لا طائل منها ولا نصر في عقباها وإنما فقر وضياع ومآس كانت وما زالت…
كنت أتابع الشأن العُماني منذ فترة، وكان من التقيهم يسألوني لماذا عُمان محايدة؟ لماذا غير مهمته بالقضايا العربية؟ لماذا تهرب وتضع رأسها في الرمل؟ لماذا تحترق العواصم والساحات وهي بعيدة؟ كنت أجيب بالقدر الذي أستطيعه وافهمه وكنت أرى غير رؤيتهم الكامنة خلف خبث أسئلتهم، وكنت أرى أن الخطابة المكرورة عن القضية الفلسطينية وعن القدس في الجامعة العربية وغيرها من اللقاءات لا تطعم طفلاً فلسطينياً ولا توفر علبة دواء او تحفظ بيتاً لأسرة من الهدم..
وجاء اليوم وجاءت سلطنة عُمان، لتستجيب لنداء الأطراف المتصارعة والتي لم تجد حلاً بعد أن انحازت الإدارة الأميركية للموقف الإسرائيلي وتماهت فيه وأصبحت ملكية أكثر من الملك ..
وقام الفراغ وجار الدليل ولم يعوض العالم حتى الآن عن موقف الإدارة الأميركية التي رهنت عملية السلام بشعار “من ليس معي فهو ضدي” ولا يستطع طرف أن يواصل إلا بالرضى والموافقة الأميركية..
أمام استغلاق عملية السلام التي حرّد أكثر العرب عليها ومنها وراحوا لشؤونهم لتسرق القدس كلها، وأمام الاستعصاء الذي ترك العرب فيه الرئيس الفلسطيني وحيداً فوق الشجرة وامعنت اسرائيل مستفيدة أيضا من تعطل الحوار ومن اي التزام تفرضه الشرعية الدولية والحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، ومتنصلة من حل الدولتين ومن اتفاقيات اوسلو ومعلنه عن ضم القدس وعن قانون القومية بجعل إسرائيل دولة يهودية لكل اليهود وليس لكل مواطنيها، لتحرم أهل البلاد الأصليين من حقوقهم، امام هذا رغب الرئيس الفلسطيني في زيارة مسقط وقد تمثلت تجربتها التي قيمها في تصريحاته بالحكمة والرؤية الثاقبة .. لقد رغب الرئيس الفلسطيني في أن يستنهض هذا الدور العماني الذي اثبت نجاحه في تخفيف حدة الصراعات الإقليمية وفي تقريب وجهات النظر والذي كان من ثماره تقريب وجهات النظر الإيرانية الأميركية زمن الرئيس اوباما لإنجاز الإتفاق النووي الإيراني، وهو نفس الدور المجرب منذ سنوات مع العراق ومع سوريا التي اكلها التحالف الدولي والنظام العربي التابع له لحماً ورماها عظماً وخذل شعبها بحجة ضرورة ان يثور على نظامه لأسباب لا يعلمها حتى الآن إلا الراسخون في التبعية والمدمنون على الصدى…
كان في الرصيد العُماني الذي ادركه بوعي الرئيس محمود عباس موقف عُمان من حصار النظام العربي لمصر ونسيان دورها وتضحيات شعبها وقربها كشقيقة كبرى لا تغلق الأبواب في وجهها ولا يتم التخلي عنها لتلعق جراحها…فبادرت السلطنة إلى الانفتاح على مصر وقيام السلطان قابوس بزيارتها وإسناد موقفها والعمل على عودة مركز الجامعة العربية اليها، وكانت الخطوة العمانية الصحيحة في التقرب مع الشقيق واسناده قد أعطت ثمارها بعودة مصر الى الحضن العربي وعودة العرب الى مصر وتراجع الحصار عن مصر وثبت ان الموقف العُماني كان صائباً وضرورياً ويحفظ البعد القومي والعروبي، ويُبقى مصر متطلعة لامتها وتكون “عكازة الأمة” التي اقعدها الضعف والخذلان وسوء التصرف ..
اذن لم تتجاوز دعوة الرئيس الفلسطيني عباس اسماع القائد العماني السلطان قابوس بن سعيد الذي استجاب للنداء الفلسطيني ودعا قائد الشرعية الفلسطينية الى مسقط بعد زيارات تمهيدية دشنها وسهل المرور عبرها وزير الشؤون الخارجية العُماني يوسف بن علوي الذي ظل دائماً يحسن ترجمة توجهات السلطان قابوس ويحسن تقديمها، وفي هذا السياق كانت زيارة الوزير العُماني الأولى الى فلسطين ثم الثانية اخيراً لتقدم عُمان خبرتها وجهدها استجابة للطلب الفلسطيني، فالرغبة الفلسطينية لم تتجاوز مسامع السلطان الذي رأى في الاستجابة واجباً تنهض به عُمان كما نهضت بواجبات اخرى عديدة لصالح امتها ومحيطها وحتى مصالحها في العراق وسوريا واليمن ومصر وفلسطين، وكانت الزيارة الناجحة للرئيس عباس وموقفه المعلن الذي يحفظ لعُمان ودورها القيمة العالية والاخلاص والنزاهة والبعد عن التشكيك وفي ظل هذه الزيارة الناجحة وما تبلور عنها من أفكار ومعتقدات جاءت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو التي قامت بعد ذلك وبطلب اسرائيلي عبّر عن حاجة اسرائيل بهذه الزيارة.
تدرك سلطنة عُمان ان المهمة صعبة ومعقدة، و تحتاج الى مبادرات و هي تدخل لا كوسيط لأن الوسيط شيء اخر و له صفات أخرى و انما لترمي في جحر البركة المسماة بعملية السلام و التي اصبحت أسنةٌ حجراً لتحريك مائها و معرفة عمقها و مساعدة الطرفين على العودة لاستعمالها.
و لهذا اطّلع السلطان على رأي رئيس الوزراء الإسرائيلي و اسمعه رأي السلطنة و تصورها و رأي القيادة الشرعية الفلسطينية محذرا من مغبة المضي في طريق يغلقه الاحتلال، مبصرا بأن الفرصة التاريخية قائمة شريطة التضحية و أن ترى إسرائيل حل الدولتين، و لا تهرب منه للخلف او الامام و أن يبقى هذا الحل بكل مفرداته قائماً ليجري الانطلاق فيه كما جاء في مبادرة السلام العربية.
لقد شرح السلطان و تكلم كلاماً صائباً خارج المجاملات التي دارت أمام خارطة سلطنة عُمان وكذلك الحديث عن فوائد اللبان وصيرورة التاريخ العُماني الممتد في عناوين قد لا يعرفها البعض.
المواقف السلطانية ذات رصيد عالٍ لا ينضب، و هي خارج الشبهات و المساومة و البيع بالمزاد،وهي ليست بحاجة الى تسويق او استمالة، كما أن المواقف المعلنة للسلطان تتطابق مع غير المعلنة تماما.
و السلطان لم يرغب ان يلتقي نتنياهو في غسق الليل وعبر الأبواب الخلفية او المزارع الخاصة و إنما تحت عدسات الكاميرات وعبر بوابات القصر الرئيسة، وبحضور البطانة والمستشارين وأعمدة الدولة، وذلك في طرح واضح وجرئ مفاده… إن كانت إسرائيل تريد السلام فهذا هو الطريق وهذا هو الدليل.. وهذا ما عكسه الوزير يوسف بن علوي في حديثه لقناة الجزيرة وفي كلمته أمام لقاء المنامة وحتى في التصريحات المصاحبة بعد ذلك وأيضا في اللقاء المثمر مع الملك عبد الله الثاني في عمان حيث سلمه رسالة سلطانية، تبارك كل ما أنجزه الملك وتُحفز للمزيد من الإنجاز، فقد وجد الملك عبد الله الثاني في الموقف العُماني ظهيراً وسنداً لما ظل الأردن دائماً يؤكده ويسعى إليه في وقت استخفت الأطراف الدولية وخاصة الطرف الأميركي بالمواقف العربية ولم تعبرها او تلتفت اليها فكان الأردن وحيداً امام إستمرار مواقفه في القضية الفلسطينية ومن قضية القدس ايضاً.
اللقاء العُماني_ الأردني أبهج الملك عبد الله الثاني وشدد على المبادرة العُمانية المحركة للأطراف ورأى فيها امتداداً للسياسة والدبلوماسية العُمانية التي ما زالت توظف فائض إمكانياتها لمصالح المنطقة والإقليم وتحديداٌ للشعب الفلسطيني..
اذن في بلاط السلطان حطت وجهات النظر الفلسطينية والإسرائيلية بهدوء ومكنت الفتوى العُمانية التي رأت ضرورة الحوار وان على الجميع ان يمسك باللب والهدف وليس القشور والعودة الى نفس المعزوفات القديمة التي ظل الإعلام يتلهي بها وعاد مجددا ليلتهي في خدمة مشاريع لصحف ومواقع ادمنت الترويج لبيع القضية واخرها ما يموله المعزول الهارب “محمد دحلان” ومن يشد على يديه من عرب الردة الذين غيروا البوصلة.. وها هو النباح يعود عاليا، في حين استمرت القافلة العمانية في السير وقد وجدت الحادي يصمد والدليل ثابت على مواقفه. فقد زادت الهجمات المُغرضة الوزير بن علوي إبتسامة إضافية مع التساؤل والقول: “اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون وأحيانا لا يعقلون”.
موجه النباح ستنحسر، وهي تعمل بمقدار شحنها المتوفر، وتمويلها القائم، وقد عشنا مثلها في اكثر من مناسبة.
وتبلغ عملية تعكير المياه ذروتها ويقوم إعلام التصيّد لزج عُمان في غير موقفها، وابتزازها ودفعها باتجاه الوهن والندم والاستنكاف، ولكن المؤمنين في السلطنة صابرون، يشدون أيديهم على جمر قناعاتهم ويمضون في مهمتهم الانسانية التي تستشرف العدالة.
نعرفها المنابر نفسها، ونعرفه الحادي الذي اعطى الإشارة من اموال غيره، الموظفة لتقويض النظام العربي وعدم تمكينه من التقاط أنفاسه وتحويل موجات الصخب من القضايا التي عذبت الضمير الإنساني في اغتيال الصحفي السعودي الى موجات سخط باتجاه سلطنة عُمان ومواقفها ، فالذين سيطالهم ما فعلوا من جرائم لا يريدون لغيرهم ان ينهض بواجباته، ومن هنا جاءت التسريبات لأقوال لم يقلها صائب عريقات أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في لقاء ممثلي دول إقليمية وعالمية في المؤتمر الأمني بالجامعة الأردنية. الادعاء بالقول ان المهمة العمانية لا يريدها أحد بما في ذلك الولايات المتحدة التي طلبت وقفه ورأينا كيف يصبر أصحاب القضية وكيف يضج المنافقون ليقوم المثل القائل(اهل الميت صبروا والمعزين كفروا)..
فالذين صمتوا على مؤتمر فاس في 1976 الذي اعترف بوجود إسرائيل المشروط عادت هذه الجوقة لتقرع الطبول هذه المرة باتجاه سلطنة عُمان، وكان هؤلاء قد جاءوا من كهف اهل الكهف ، لتستعملوا عملتهم معتقدين ان اسرائيل موجودة فقط على الخريطة التي يمكن تمزيقها فتزول. وهم بذلك يريدون الاستمرار في التضليل و الاعتقاد بالطهارة رغم كل ما يلبسهم من نجاسة الاتصال والتنسيق والموالاة والتمويل لسياسات الاحتلال شريطة ان يبقى ذلك في الخفاء.
ما قاله الوزير بن علوي لم يكن كفراً ، “فما ضل صاحبكم وما غوى” وانما شخص الوزير حالة قائمة ليصف الدواء وبدون هذا التشخيص الذي ذهب إليه (دولة موجودة ويحب التعامل معها كحقيقة لها وعليها ما للدول الاخرى في المنطقة ) . لا يمكن الوصول الى حل.
أليس هذا المدخل المناسب لتقول عُمان أين حقوق الشعب الفلسطيني المسكوت عنها إسرائيلياً؟ وضرورة التحرك نحو المستقبل والعمل على تجاوز الماضي الذي ما زالت الأمة تغرق فيه دون ان نرى خشبة النجاة؟!
يا عرب الرّدة دعوا السلطنة تعمل .