عمان .. دبلوماسية راقية وسياسة واعية وانطلاقة تسير بخطى واثقة/ سعود الحارثي

قد أثمرت تلك الصداقة المتينة مع دول العالم، والاستثمار المدروس لتعزيز العلاقات وبنائها، والرؤية العميقة للتعامل مع الملفات والقضايا السياسية، والعبقرية الفريدة التي مكنت جلالة السلطان المعظم من استشراف المستقبل على ضوء القراءة الدقيقة لأحداث الحاضر، عن توالي النجاحات وتواصل الإنجازات في معالجة الأزمات وحل المشكلات والإفراج عن عشرات المكلومين والمفقودين والمسجونين والملاحقين في بؤر الصراع…
عندما تتأزم المشكلات وتتشابك الملفات وتتعقد القضايا المصيرية، وتفقد القيادات البوصلة وتتوه في عشرات الطرق والمسارات، وتتخلى الدول المرتبطة باتفاقيات وتعهدات سابقة عن مسؤولياتها في تنفيذ ما التزمت به والوفاء بما وعدت بتحقيقه فتتخلى عن مواقعها القيادية، وتفقد بذلك مصداقيتها وثقة الشعوب المغلوب على أمرها فيها، تصبح مسقط هي المنقذ والملجأ والمحج، وعندما يشعل الآخرون الصراعات ويقدون نار الحروب التي تدمر وتهجر وتشرد وتفتك بالملايين من البشر وتأتي على مقدرات الشعوب وإرثها الحضاري وثقافتها وتدوس على القيم والمبادئ الإنسانية بدون رؤية ولا تفكير ولا قراءة للتاريخ معتقدين بأنها مجرد فسحة ونزهة، وأنه بمجرد غارة أو غارتين ومعارك محدودة سوف تنتهي الجولة، فتصبح كل الأطراف ضحايا لقراراتهم المتسرعة ودوافعهم غير الواقعية وخبراتهم الضحلة، تتهافت ـ هذه الأطراف ـ مسرعة لتلتقي أمام حكيم العالم وداعية السلام وحامي حمى القيم الإنسانية المدافع والمنافح عن حقوق الشعوب في الحياة الكريمة، والعمل ليلا ونهارا لتجنيبها ويلات الحروب وصراعات الساسة ومصالح أنظمة الحكم>

حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ الذي رسم ملامح سياسة بلاده الخارجية في العديد من كلماته وخطاباته السياسية، والتي سوف نستقطع منها ما يفي بغاية هذا المقال، ويبرز أسباب نجاح السياسة الخارجية للسلطنة التي تعهدها جلالته ـ حفظه الله ورعاه ـ شخصيا بالرعاية والاهتمام والإشراف والتوجيه على مدى ثمانية وأربعين عاما (… أما عن سياستنا الخارجية فقد عبرنا عن ملامح تلك السياسة في مناسبات مختلفة، وأكدنا ممارستنا الفعلية لتلك السياسة على الصعيدين العربي والدولي… إننا جزء من الأمة العربية تربطنا وحدة الهدف والمصير قبل أن يجمعنا ميثاق الجامعة العربية، وموقفنا من القضايا العربية واضح وصريح لا لبس فيه ولا غموض … كما تستمر عمان في جهودها المتواصلة ونشاطاتها الباسلة في الأسرة الدولية وتسهم بنصيبها في حل المشاكل والقضايا العالمية…).

وفي خطاب آخر يؤكد جلالة سلطان البلاد المفدى على جهود السلطنة الفعلية ومبادراتها الإيجابية في إرساء مبادئ السلام (إننا نؤدي دورنا في المجتمع الدولي، ومحافله بإيجابية وفعالية ونشارك في حل القضايا العادلة، ونحن كأمة إسلامية نضع نصب أعيننا القيم النبيلة والأفكار السامية والتمسك بمبادئ ديننا الحنيف…)، هذه المبادئ الثابتة يركز عليها جلالته في كل مناسبة ومحفل (… لقد اعتمدنا دائما في سياستنا الخارجية ثوابت أساسية ومبادئ رئيسية تتمثل في حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير واحترام القوانين والأعراف الدولية ودعم التعاون بين الدول وتعزيز فرص الحوار فيما بينها تعبيرا عن قناعتنا بأن حل الخلافات بروح الوفاق والتفاهم، إنما هو سلوك حضاري يؤدي إلى نتائج أفضل وأدوم…)،

أما تطلعات جلالة سلطان البلاد المفدى التي تحققت على أرض الواقع بفضل تلك السياسة الحصيفة فقد لخصها في بضع كلمات (… إنني أريد أن أنظر إلى خارطة العالم ولا أجد بلدا لا تربطه صداقة بعمان…)، وقد أثمرت تلك الصداقة المتينة مع دول العالم، والاستثمار المدروس لتعزيز العلاقات وبنائها، والرؤية العميقة للتعامل مع الملفات والقضايا السياسية، والعبقرية الفريدة التي مكنت جلالة السلطان المعظم من استشراف المستقبل على ضوء القراءة الدقيقة لأحداث الحاضر، عن توالي النجاحات وتواصل الإنجازات في معالجة الأزمات وحل المشكلات والإفراج عن عشرات المكلومين والمفقودين والمسجونين والملاحقين في بؤر الصراع ومناطق الحروب من شخصيات العالم ومواطني الدول الذين التقوا ـ بفضل جهود السلطنة وعلاقاتها الوطيدة مع جميع الأطراف المتصارعة واحترام العالم لها وثقته بنتائج مبادراتها ومساعيها ـ بذويهم وأحبائهم وأسرهم وهم في صحة وسعادة وامتنان، وتصدرت مسقط عواصم العالم في القدرة على لمِّ شمل الأطراف المتنافرة على طاولة الحوار والتفاهم وتوقيع اتفاقيات السلام …

لقد (أثبت النهج الذي اتبعناه في سياستنا الخارجية خلال العقود الماضية جدواه وسلامته بتوفيق من الله ونحن ملتزمون بهذا النهج الذي يقوم على مناصرة الحق والعدل والسلام والأمن والتسامح والمحبة، والدعوة إلى تعاون الدول من أجل توطيد الاستقرار، وزيادة النماء والازدهار، ومعالجة أسباب التوتر في العلاقات الدولية بحل المشكلات المتفاقمة حلا دائما وعادلا يعزز التعايش السلمي بين الأمم، ويعود على البشرية جمعاء بالخير العميم…).

وهنا لا بد من أن نطرح سؤالا مهما عن الخصائص والمؤثرات التي صقلت شخصية جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم، وجعلت منه قائدا متفردا يثق فيه قادة وساسة العالم وحكوماته ويهرعون إلى عاصمة بلاده وقصر حكمه كلما ضاقت عليهم السبل وشحت المعالجات والحلول والخيارات، وتخلى عنهم العالم وبلغت ملفات قضاياهم عنق الرجاجة؟ وبشيء من الاجتهاد يمكن أن نتلمس الإجابة على سؤالنا المطروح في استثنائية شخصية جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ التي امتازت بثلاث خصائص مهمة، مكنته من تبوؤ مكانته القيادية كما هي عليه في فرادتها وتكامل أسباب نجاحها، وتصاعد ألقها وتواصل إنجازاتها المحلية والإقليمية والعالمية عبر مراحل حياة جلالته الحافلة بالمنجزات، وأهلته لأن يحظى بحب شعبه وإجماعهم عليه قائدا وسلطانا وأبا ومرشدا وصمام أمان لعمان والعمانيين، ووضعته في مصاف القادة الكبار محل احترام وتقدير العالم، وحكوماته ورؤسائه ودوله وشعوبه كما تؤكده الصور والممارسات والشهادات المعبرة عن ذلك عبر مشاهد ووسائل ومواقف متعددة، تتمثل الخصيصة الأولى: في حكمة وحنكة القائد وبُعد نظره وسياساته الحصيفة في تعامله مع مختلف الملفات السياسية القائمة على جملة من الثوابت والمبادئ من بينها، ترسيخ منهجية الحوار الموضوعي البناء والمتكافئ في معالجة الخلافات والنزاعات، احترام الآخر وعدم التدخل في شؤون الدول، التوازن في بناء وتعزيز العلاقات مع مختلف الأطراف، وهو ما جعل من عمان قبلة الساسة ومصدر الرأي والاستشارة ومنطلقا للحوار البناء والمتوازن بين الأطراف والحكومات وبيئة صحية لتنقية الأجواء بين المختلفين وتوقيع اتفاقيات التفاهم وعلاج الخلافات، يستأنس بحكمة سلطانها وبُعد نظره الجميع. الخصيصة الثانية: رؤيته الإنسانية المتدفقة نبلا وعاطفة وحبا وترفقا وحلما وعفوا شاملا، المحملة بهموم الإنسان أيا كان انتماؤه وجنسيته المتفهمة لاحتياجاته ومتطلباته وتطلعاته ومتاعبه وهمومه على ضوء واقعه المعيشي وظروف ومستجدات حياته، والتي تصاغ وتخرج إلى العلن في شكل مراسيم وقرارات وتوجيهات وأوامر ومساعٍ وجهود سامية، وما الإفراج عن عشرات المسجونين في الداخل والخارج من مواطني السلطنة ودول العالم الأخرى إلا نتاج لتلك الخصيصة الإنسانية النبيلة.

الخصيصة الثالثة: الشخصية العمانية المثالية في اتزانها ووقارها وثقلها وانضباطها العام وذكائها المتقد، وقراءتها الواعية واستشرافها للمستقبل على ضوء تلك القراءة ومسارات الأحداث ومخرجاتها، وضبط إيقاع كل كلمة أو خطوة أو عمل أو قرار أو سلوك مرتبط بملبس ومأكل ومشرب وهيئة وأسلوب في التعامل، بما يتفق مع تلك الخصائص الفذة، والتي تؤثر في الآخر وتأسره وتفرض عليه المهابة والاحترام، وهو ما نراه ماثلا في شخص جلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ وفي علاقته بشعبه والعالم الخارجي، وهي مهارات وخصائص تميزت بها واكتسبتها الشخصية العمانية عبر مراحل من التربية الصارمة والتعليم المتدرج والخبرات المتنوعة والمسؤوليات المتعددة، ومما لا شك فيه بأن المواقف السياسية المتزنة والمبنية على أسس وثوابت راسخة، والمنجز الحضاري والإنساني والتنموي الكبير، والقيم الأخلاقية العالية التي يؤمن ويتمسك بها العمانيون، والتي شكلت أساس نجاحهم، ووضعت لهم أسسا وثوابت خاصة وجعلت منهم مضرب المثل إنما امتدت جذورها وأساساتها من ذلك التاريخ العريق والتربية المتميزة والمنجزات المتتابعة،

وكان صاحب الجلالة سلطان البلاد المفدى حريصا كل الحرص منذ أن تقلد مقاليد الحكم في البلاد على تمسك العمانيين بتقاليد آبائهم وحفاظهم على الخصوصية العمانية في السلوك العام والهيئة والملبس، وجاءت العديد من الأوامر السامية المتتابعة مؤكدة على ذلك، غايتها حماية الشخصية العمانية من الانصهار والذوبان والتقليد المسيء، وهو ما حفظ للعمانيين مكانتهم المحترمة والمقدرة على مختلف الأصعدة والتي أصبحت مضرب الأمثلة عند الآخرين، هذا جانب ومن جانب آخر فإن تلك الفرادة في شخصية جلالته شكلت ثقافة عامة لمختلف مجالات العمل الحكومي وملمحا بارزا لسياسات الدولة الداخلية والخارجية، وللجهود الكبيرة والمبادرات التي يقوم بها جلالته ـ حفظه الله ورعاه ـ لرأب الصدع وتجنيب المنطقة مزيدا من الصراعات والحروب والنأي ببلاده عن السياسات والمنزلقات التي قد تدخلها في خلاف أو صراع مع الآخرين، تميزت بالحكمة والحنكة والهدوء وبُعد النظر والعمل المحكم والالتزام بالقيم والمبادئ العامة للمجتمع بما يحفظ لشخصيته مقامها ومكانتها وخصوصيتها،

في أجواء صحية تخلو من الصخب والهيجان الإعلامي والتصريحات المثيرة والترويج والتسويق المبالغين فيهما، وتتجنب الاستفزازات أو الحساسيات أو الإثارة والفهم الملتبس والرسائل المغلوطة والخروج عن المألوف مما أشرنا إليه في صدر المقال. وفي تطور لم يكن مفاجئا البتة ضمن سلسلة الجهود التي تبذلها السلطنة لإحلال السلام استقبل جلالة السلطان المعظم كلا من الرئيس محمود عباس رئيس دولة فلسطين ورئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ودولة بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي ـ في زيارتين منفصلتين ـ حيث تم (بحث السبل الكفيلة بالدفع بعملية السلام في الشرق الأوسط ومناقشة بعض القضايا التي تحظى بالاهتمام المشترك وبما يخدم الأمن والاستقرار في المنطقة)، ما يؤكد أن مسقط باتت خيارا مهما لتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين ومعالجة الملف الفلسطيني بعد أن تخلت الكثير من الدول عن مسؤوليتها في حلحلة ومعالجة القضية الأهم والأبرز دوليا.

على مدى ثمانية وأربعين عاما كان علم عمان يرتفع شيئا فشيئا في سماء الدنيا يرفرف في كل مدينة وعاصمة عربية وأجنبية معلنا عن الرفعة والشموخ والمعاني الصادقة، والسفينة العمانية تمخر عباب المحيطات والبحار تتحدى الأمواج والعواصف حاملة معها رسالة القائد الداعية إلى مبادئ السلام والحب ومعالجة سوء الفهم والمشكلات بالحوار الفاعل وتبادل المنافع المفضية إلى المصالح العامة للشعوب وعدم التدخل في شؤون الآخر، دبلوماسية راقية وسياسة واعية وانطلاقة تسير بخطى واثقة، أشادت بها حكومات ومؤسسات وزعامات كثيرة طوال تلك السنوات، دبلوماسية ناجحة لأنها جنبت عمان وشعبها التوترات والأزمات، ولأنها تؤسس لقيم السلام ومبادئ الحوار وتسهم في معالجة التوترات والتخفيف من مآسي الشعوب التي حاصرتها الحروب والصراعات.

Related posts

القمة العربية الإسلامية… الفرصة الأخيرة…لمغادرة الضعف والتبعية ؟* د فوزي علي السمهوري

جلالة الملك المسلم المؤثر* د. نسرين الصبيحي

كيف نخفف من خسائر الحرب؟* ماهر أبو طير