في حصاد العلاقات العُمانية الصينية.. من عام 206 قبل الميلاد الى اليوم

عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب – تمر الآن ذكرى الأربعين على علاقات تطورت بين سلطنة عُمان وجمهورية الصين ، ويستمر صعود هذه العلاقات التي جرى الاحتفال بها من الجانبين.
فقد جاء الصينيون الى السلطنة على رأس وفد رفيع يمثل وفدأ برلمانيا ليلتقي مع مجلس الشورى العُماني..
وفي الصين حلّ وزير الاعلام الدكتور عبد المنعم الحسني ممثلا للسلطنة في هذه المناسبة وكانت الاحتفالات التي قامت وامتدت قد شارك فيها رئيس جمعية الصداقة الصينية العربية ولخصت الكلمات علاقات متميزة وممتدة، كما شهدت المناسبة توقيع مجموعة من الاتفاقيات واطلاق وتفعيل اتفاقيات أخرى ، وشملت المحادثات جوانب من التبادل الإعلامي وإلقاء المحاضرات وفتح آفاق الاستثمار والكشف عن فرصه وإظهار فرص الاستثمار في السياحة في السلطنة وتعزيز هذا المكون الاقتصادي الهام .
كما جرى عرض العديد من الأفلام والوثائق التي تعبر عن مسيرة العلاقات العُمانية الصينية وخاصة في عمقها التاريخي منذ بدأت في أوقات مبكرة حيث كانت عُمان سيدة في البحار ورسمت تاريخا لا يغفله التاريخ فقد جابت الأساطيل العمانية البحار الموصلة للصين ، وكان الحضور العماني التجاري فيها ملموسا، وسجلت عُمان ريادة بحرية تذكرها كتب التاريخ من خلال رحالة ظلت اسماؤهم محفوظة.
اليوم وقد احتفل البلدان بثمرة علاقات طيبة فأنهما خلدا هذه الذكرى الأربعين بطابع بريدي يروي البدايات وبنصب تذكاري ازيح عنه الستار يعكس هذه العلاقات ويضيء جوانبها، ولعل كلمات الوزير الحسني المختارة بعناية والتي أصابت الوصف الدقيق لهذه العلاقة في بعدها الإنساني والاجتماعي والثقافي إلى جوار السياسي يعكس تقاليد السياسة العُمانية التقليدية الممتدة التي كانت ترى في العلاقات ثراء انسانيا قبل تأكيد المصالح البينية، وترى ضرورة إحياء البعد التاريخي القديم لعلاقات البحار بين البلدين والبناء عليه في هذا الشوط الممتد والبالغ أربعين سنة لتاريخ حديث حملته النهضة العُمانية وأظهرت ألقه.
العلاقات العٌمانية الصينية تملك أفقا ممتدا وهي قابلة للتطور وإثراء علاقات الإقليم كله ، فالصين ليست جديدة في منطقتنا ولم يكن بينهما وبين الإقليم حجابا أو صراع ولم تكن الصين في الماضي دولة مستعمرة في إقليمنا وإنما تبسط يد التجارة والتعاون الذي أثمر اليوم بهذا الدور الصيني المتعاظم في البحار وتحديدا في افريقيا وحتى المنطقة العربية برمتها.
إذ تتسع العلاقات مع الصين في منطقة الخليج وتدخل في منافسات شريفة تأخذ بعين الاعتبار مصالح كل الإطراف المنخرطة في العلاقة لتميز الصين بذلك نفسها عن الدول الاستعمارية التي جاءت إلى هذه المنطقة غازية أو قاهرة كالبرتغاليين والهولنديين والانجليز وغيرهم حتى من دول الاقليم.
لقد أدركت بعض دول الخليج أهمية العلاقة مع الصين وسط التزاحم في العلاقات الدولية وأخذت تعزز علاقاتها بهذا البلد العملاق، وهذا ما رأيناه في الكويت مؤخرا وما سنراه لاحقا في عديد من دول المنظومة الخليجية التي سبقتها عُمان إلى هذه العلاقات بعدة عقود..
لقد توجت السلطنة هذه العلاقة بلقاء جلالة السلطان قابوس بن سعيد فخامة الرئيس شي جين بينغ في 25/5/2017 كانت روافع عدة ابرزها الحرص على السلام والاستقرار الدوليين وزيادة حجم المصالح المشتركة وراء اهتمام السلطان وتأكيده على هذه العلاقات والاستثمار فيها.. وتشكيل نموذج منها يحتذي به الآخرون على امتداد دول العالم.
لقد التقطت سلطنة عُمان مبكرا كثيرا من المبادرات الصينية الاقتصادية ورأت فيها تعاونا مميزا وخاصة تلك المبادرة الصينية الحزام والطريق- طريق الحرير وما تحمله من بعد معاصر.
حجم الاستثمارات الصينية الكبير والمتنامي في المنطقة الاقتصادية الخاصة في الدقم وفي مشروعات أخرى لا تقل أهمية تظهر تطور الفرص واتساعها وحرص الشعبين على انجاحها.
لقد تراكمت هذه العلاقات على جذر العلاقات القديمة ولعل تدشين النصب التذكاري بحضور الوزير الحسني للسفينة العُمانية صحار حيث يقف النصب الذي انجزه العمانيون في الساحة الواسعة في ميناء “جوانج” دليلا على القدرة البحرية العمانية وما خطه العمانيون في سجل البحار من انتصارات على مستويات عدة عنوانها السلام والإخاء والمحبة. فقد عكس النصب البعد التاريخي واستدعاه ليواصل هذه العلاقات من خلال جذرها العميق إلى افاق رحبة في المستقبل ومع التمجيد للبعد التاريخي واظهاره كصورة لهذه العلاقات، جاءت الفعاليات المعاصرة التي أطلقها ممثلا ً للسلطنة الوزير الحسني تأكيدا على الاستمرار والاستثمار في المستقبل .
لقد انطلقت في هذه الذكرى فعاليات عمانية طيبة مشتركة موسيقية ومعارض صور وفنون حرص العمانيون فيها أن يقدموا بلدهم بالشكل الحضاري والراقي وان يربطوا امجاد ماضية لآمال مستقبلية ..
إن ما بنى عليه الوزير الحسني ممثلا للسلطنة الآن في الذكرى الاربعين كان قد وضع أيضا في المدماك العالي فيه انجازا كبيرا معالي الوزير يوسف بن علوي بن عبدالله الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية في زيارته التاريخية للصين وسط شهر مايو عام 2018 ليطلق حينها شارة الاحتفال الذي يقوم الآن لإضاءة هذه الذكرى الأربعين .. سعي بن علوي جاء ليمسك بعلاقات يمكنها إعادة إحداث التوازن الذي أخلت به الإدارة الأميركية المندفعة الموازين حين أقدمت على إلغاء الاتفاق النووي الإيراني وأخذت قرار بجعل القدس عاصمة لاسرائيل مما يفرض حالة توتر تحتاج إلى حوارات ومشاورات في كثير من دول العالم أهمها الصين التي لها مواقف ايجابية يمكن التأكيد عليها .. إن الوفود العُمانية من جهة والصينية من جهة أخرى لا تنقطع عن الزيارات المتبادلة وفتح الأفاق على مختلف الأصعدة.. لقد دشن بن علوي في زيارته التي سبقت زيارة الوزير الحسني حالة جديدة صلبة للعلاقات الثنائية التي تتكئ على علاقات تاريخية ممتدة إلى عهد (الهان) من عام 206 قبل الميلاد إلى عام220 بعد الميلاد حيث انتظمت في عام (507) ميلادي وقبل بزوغ فجر النبوة المحمدية علاقات تجارية بين صحار العمانية وجوانج زهو الصينية التي أقام فيها التجار العُمانيون وبنوا فيها استثمارات وتجارة ومنهم من أقام وامتدت سلالاته إلى اليوم.
إذ كان الطريق البحري يتواصل ليحمل اسم طريق التوابل وظل على امتداد القرون التالية يمر بفترات ازدهار دون انقطاع حتى أصبحت صحار العُمانية إحدى أهم وأكثر من العالم ثراء كما جاء في كتب التراث العربي عند ابن حوقل في جغرافية الأرض وعند المقدسي في أحسن التقاسيم وغيرها والمسعودي في مروج الذهب وفي ما ذكره الرحالة العرب وحتى الاجانب في وقت مبكر. وقد وصلت التجارة بين عُمان (صحار) وبين الصين أوجها في أعوام 1431-1433 بوصول اسطول زهينج هي إلى منطقة ظفار العُمانية وقام إثرها زيارة وفد ظفاري إلى بكين، ومنذ ذلك التاريخ لم تتأثر العلاقات إلا بانقطاعات سببها الغزو البرتغالي الاستعماري لسواحل عُمان..
واذا ما تتبعنا مرحلة هذه العلاقات في محطاتها العديدة لنربط بالحاضر فإننا سنتوقف في العديد منها ، فهذه المناسبة الأربعين التي أطلت الآن، فلقد ساهم هذا البعد من العلاقات الثنائية في تعزيز البعد الاسيوي في العلاقات مع عمان والبعد الذي أفرز جزء من مكونات الثقافة العُمانية المعاصرة التي لها علاقة بالبحر والابحار وبناء السفن والاساطيل وامتلاك قاموس مسميات ذلك، فقد توسع الدور العماني وغدا يأخذ شكل الامبراطورية التي ركبت البحر ووظفت ذلك في بعد انساني نقلته عبر كتب التاريخ ليترك امتداداته الآن في الدبلوماسية العُمانية القائمة ..
إذن ساهم البعد الاقتصادي التجاري الذي برعت فيه عُمان في التاريخ في توليد ثقافة عُمانية بسمات مختلفة ابرزها التسامح والانسانية والتفاعل وتحديد الشرق جهة للتوجه والتواصل المنتظم على حساب الصحراء التي جاءت الاستدارة لها متأخرة وقد كانت بداياتها مع الاسلام واستمرت لخدمة الفكرة العربية.
لقد حملت هذه العلاقة صفات عديدة فرضتها طبيعتها ومن هنا جاء الاحترام للآخر وعدم التدخل في شؤونه والحفاظ على المصالح المشتركة والمتبادلة ، وكل ذلك ميزة العلاقات المعاصرة الان والتي بدأت عُمان في زراعتها مبكرا.
إذن العلاقات العُمانية الصينية منذ اربعين سنة انطلقت بعد رحيل الزعيم الصيني ماوتسي تونغ في سنوات وكانت البداية عام 1976 ، وكان لهذه العلاقات أن تتطور بعد انفكاك الصين من عقائدها الايدولوجية المتزمتة وبداية انفتاحها الجديد على العالم وخاصة مع تولي الزعيم الصيني دينج شياو بينج السلطة وكان المناخ مواتيا فقد انتهت عُمان من مرحلة تدشين النهضة والانطلاقة في السبعينيات لتنطلق المرحلة العُمانية المبلورة عام 1976 في الخطة الخمسية التنموية الأولى ومنها بناء مؤسسات الدولة الحديثة بما فيها السياسة الخارجية التي تقوم على البراجماتية وعدم المبالغة في افتراض وجود نوايا سيئة للأمم الأخرى، وشجاعة المبادرة في وجه المعارضات التقليدية والايمان أن عدو الأمس يمكن أن يتحول إلى صديق اليوم وعدم التدخل في شؤون الآخرين واحترام القانون الدولي والتوفيق بين المصالح..
لقد أردنا لهذه المقالة أن تروي عطش من أراد أن يعرف أكثر عن هذه العلاقات لنتوقف فيها عند البعد الاقتصادي في هذه العلاقات وهو ما يعطيها المسوغ والبعد الحيوي.
ومن هذه المحطات الاساسية استمر الاندفاع فيما بين عام 1976 (البداية) و(2005) حيث كانت الصين حققت نموا وصل معدله السنوي 9% ولذا جاءت الحاجة الصينية للاستيراد وخاصة من النفط والغاز، وكانت عُمان قد صدرت للصين أول شحنة من نفطها وهذا له دلالات هامة وكذلك أول شحنة غاز عام 1997 ، وتصاعد الطلب حتى اصبحت الصين منذ عام 2003 أكبر مستورد للنفط العُماني.. ووصل التبادل التجاري بين البلدين قفزات كبيرة من صادرات صينية إلى عُمان بلغت أكثر من 2 مليار دولار عام 2013 والصادرات العُمانية إلى الصين بلغت حوالي 1.5 مليار دولار.
أما في عام 2016 فقد دخلت العلاقات العُمانية الصينية مستوى جيد لم يسبق له مثيل حين أطلقت السلطنة خطتها التاسعة والتي شكلت تصورا لعُمان عام 2020 فيما اسمي بـ “رؤية عمان” والتي استهدفت التنوع في الاقتصاد العُماني بشكل جذري ولذا وضعت الاستراتيجية التنموية الشاملة لعام 2040 وفي مقدمة اهدافها استمرار العمل على احداث التنوع في الاقتصاد العُماني وبالمقابل أطلقت الصين مبادرة “الحزام والطريق” وهذه المبادرة تهدف إلى تعزيز موقع الصين في الاقتصاد العالمي من خلال إحياء طريق الحرير البري والبحري باستحداث وسائل مواصلات كبيرة وهائلة من الطرق البرية السريعة وسكك الحديد العابرة للقارات وانشاء الموانئ وبناء المرافق اللوجستية والخدمية المصاحبة واقامة مناطق صناعية حديثة على امتداد هذا الطريق العابر للحدود والقارات لتكون هناك مراكز وتجمعات صناعية ومحطات تجارية دولية وكذلك تطوير مصادر الطاقة من خلال مد الانابيب الناقلة للنفط والغاز وبناء مصافي البترول ومحطات التكرير واسالة الغاز، وكانت هذه المبادرة تستهدف اشراك (65) بلدا وارادت أن تستثمر في 953 مليار دولار من قيمة التجارة الصينية حيث يعيش على هذا الاقتصاد 4.4 مليار نسمة.
الصين وجدت في عمان موقعا مميزا يشجع على التعاون والاستثمار ووجدت في الاستقرار السياسي فيها ما يشجعها على أن تكون شريكا مميزا فهي دولة ذات موقع مميز ومنتجة للنفط والغاز، ومحطة مشاركة مباشرة في طريق الحرير تربط آسيا بافريقيا والشرق الأوسط والبحر المتوسط والى اوروبا، وقد كان لكل هذه العوامل ما حفز الصين لايجاد شراكة فاعلة مع عُمان مستثمرة ما تقدمه هذه المبادرة من امكانيات إحياء الموقع التاريخي لعُمان ودورها التجاري عبر التاريخ..
وفي سياق هذه المبادرة الصينية ومن الزخم الذي أطلقته أحتلت الدقم موقع الصدارة حيث سبق أن ترجمت الرؤية العُمانية لعام 2020 ما طرحته الصين في الحزام والطريق إذ كان التعامل العُماني من قبل من ائتلاف شركات بلجيكي حيث شرعت الحكومة العُمانية في تطوير البنى التحتية للمشروع ..
الان إن هذا الائتلاف رغم تشجيع الحكومة العُمانية أصيب بالبطء ولم يتقدم بالشكل المطلوب مما حدى بالعمانيين لربطه مع مشروع الحزام والطريق الصيني لما يوفره هذا المشروع من قوة دفع، وما منحته المبادرة الصينية من روافع دولية قوية إذ بلغت قيمة الاستثمار الصيني في الدقم 10.7 مليار دولار في ائتلاف مكون من ست شركات صينية مع توجه لانشاء ميناء ومعمل لتكرير النفط اضافة إلى سلسلة من الصناعات البتروكيماوية ومنطقة صناعية وأخرى سياحية..
ومع هذا فإن التعاون العٌماني الصيني أخذ ابعاد أوسع من مشروع الدقم فقد بينت أن هناك امكانيات عديدة سيتمدد اليها التعاون منها توظيف التكنولوجيا الصينية في مشروعات الطاقة البديلة “الشمسية” وعضوية عُمان في بنك أسيا المتوفرة لامكانيات أن تصبح عمان مركزا ماليا مرموقا في الاقليم كله . وايضا مركز لتجميع وتوزيع صناعات عديدة ومنها ايضا استثمار موقعها للتحول الى مركز لتطوير شبكات الاتصالات السيبرانية الممتدة من الشرق عبر المحيط الهندي إلى افريقيا.
ان التعاون الصيني هو نموذج ناجح ومثمر توفرت له كل الاسباب ليجعل من الاقتصاد العُماني المنوع اقتصادا يراهن عليه في تنمية مستدامة تنقل عُمان إلى مرحلة واضحة من التقدم.

Related posts

القطريون يصوتون على التعديلات الدستورية

الفايز يلتقي السفير السعودي لدى المملكة

20 شركة غذائية أردنية تشارك بمعرض الخليج الصناعي