عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب -ما زالت الدبلوماسية العمانية توظف فائض قدرتها في نزع فتيل التوترات التي تسود المنطقة، بالقدر الذي تستطيعه، رغم إدراكها اتساع مساحات الظلمة، وزيادة التوتر والاضطراب وسوء التقديرات لما هو قائم، أو ما هو مرشح أن يقوم.
الدبلوماسية العمانية التي ينفذها الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية يوسف بن علوي بتوجيه وهندسة من السلطان قابوس بن سعيد ما زالت مؤثرة وما زال لها حصادها وما زالت الأطراف المعنية والمحتاجة لها تذكرها بتقدير وتثني على دورها.
لم تتوقف الدبلوماسية العمانية خلال اشد الفترات تعقيداً، من أن تتحرك في كل الاتجاهات، فكانت في الأزمة الإيرانية الأميركية، وفي أزمة حرب اليمن التي طالت ودمرت الكثير من الإمكانيات، وتهدمت عديد من جسور العلاقات… وما زالت هذه الدبلوماسية تسجل رؤية صائبة في الأزمة السورية منذ اختارت طريق الدعوة الى الحوار، والوقوف على نفس المسافة من الإطراف المتصارعة، سواء الطرف الحكومي الرسمي السوري أو طرف المعارضة فقد استضافت السلطنة معارضين سوريين، واستقبلت مسؤولين رسميين أيضا. وظلت هذه الدبلوماسية تضع نفسها برسم الحاجة إليها من الأشقاء، دافعها الحرص على حقن الدماء العربية واستقرار المنطقة التي يجلب الصراع فيها تدخلات أجنبية متعددة ليس من السهل الخلاص منها.
سلطنة عمان كانت في القدس من خلال زيارة الوزير بن علوي للمدينة المقدسة وقد جاء البيوت من أبوابها واستأذن أهلها الذين احتفوا به وهم القائلون: ” إن الأسير يزار”
وقد لخص زيارته الناجحة والتي سلطت الضوء على ضرورة بناء حل الدولتين لتقوم الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية قال بن علوي ” من رأى ليس كمن سمع” وقد أحسن الفلسطينيون على مختلف مستويات أدائهم أن يداً عربية امتدت لهم واقتربت من نبضهم وهم يقاومون الاحتلال بصمودهم ومقاومتهم السلمية الواسعة الأشكال..
لم تتردد الدبلوماسية العمانية التي واجهت أشكالا عدة من الاتهامية والتشكيك من أداء دورها لوقف الحرب في اليمن، اذ استضافت أطراف الصراع عندها وعبر اتصالات ولم تتردد في إبداء رأيها ونصح الشركاء في مجلس التعاون الخليجي وقد كان الرّد أحياناً على هذه الدبلوماسية المحايدة النشطة ظالما لثنيها عن دورها باتهام السلطنة بتهريب السلاح إلى حكومة صنعاء وإنها تنحاز إلى إيران والحقيقة ليست كذلك، وإنما هي ماثلة لكل ذي عينين وقلب بصير…
والأزمة الإيرانية الأميركية المتجددة والتي نشأت في أعقاب اتخاذ إدارة ترامب حملة من الإجراءات المندفعة، وإلغاء الاتفاق النووي الإيراني، وتغليط العقوبات ضد إيران والتي أرادت الإدارة لها أن تتصاعد حد منع تصدير النفط الإيراني من خلال مضيق هرمز، وإجراءات أخرى, ومع اشتداد الأزمة وضيق الصدر وبلوغ القلوب الحناجر، بدأت الأنظار مجدداً تتجه إلى سلطنة عمان باستذكار دورها عشية عقد الاتفاق النووي ونجاحها المُقرّبة إذ أن الدبلوماسية العمانية ظلت تسري وتعمل في اتصالات مكوكية غير معلنة بين الولايات المتحدة وطهران إلى أن نجحت أخيراً في جمع الطرفين في مسقط والوصول إلى الاتفاق النووي الأميركي الإيراني.
كان من دوافع السلطنة ايضا مصالحها لمنع توتر المنطقة التي تشكل جغرافيتها جزء منها، وعدم وصول التوتر أو الحريق إلى الوسادة العمانية في مضيق هرمز وكانت ماكنة هذه الدبلوماسية قد اشتغلت لتبريد الحالة الناتجة عن التصعيد لتسجيل نجاحاً وحين جاءت الإدارة الأميركية الجديدة “الترامبية” وعادت الاطفائية العمانية ضرورة أن تتحرك وأن تكون جاهزة، ورغم جحود الإدارة “الترامبية” بداية للدور العُماني وهو الدور الذي أقرت به إدارة اوباما واثنت عليه إلا أن هذه الإدارة الأميركية عادت وأقرت بمثل هذا الدور الذي امتدحه وزير الخارجية الأميركي الجديد مايك بومبيو ورحب به كنتيجة وليس كطلب وكان الموقف الإيراني كذلك فالأطراف لم تطلب من السلطنة ولكن السلطنة بادرت وحركت محولات الدبلوماسية العمانية بشكل تلقائي حين بدأ ظلام التوتر يسود المنطقة لتضئ ما يمكن من مساحات تستطيع الأطراف أن تبصر من خلالها، ضرورات الحوار و أهميته، ولذا كانت زيارة بن علوي إلى واشنطن، ولقاء العديد من المسؤولين، وهي الزيارات التي رحبت بها أطراف أوروبية عديدة زارت السلطنة أو اتصلت بها كما رحبت إيران بالفعل العماني وكانت ممتنة له وقد جاء ذلك على لسان أكثر من مسؤول إيراني.
ميزة الدبلوماسية العمانية أنها لا تسعى إلى المدح ولا تريد أن تحتل أحزمة الإعلام، أو أن تشكل رسائله في سبق الأخبار وتلك سياسة سلطانية معروفة تؤمن بضرورة قضاء الحوائج بالكتمان، والابتعاد عن التمنين أو التعبير عن الذات وانما تسخير فائض إنتاج هذه الدبلوماسية بما ينفع الإقليم ويمكث في شبكات مصالحه….
وحتى في الأزمة الخليجية – الخليجية كانت عمان متحركة، ورأت في محطة الكويت إضاءة يمكن توسعتها، وطاقة يمكن بها إطفاء الحريق المحتمل بين قطر وأطراف حصارها.. وقد كان الحرص العُماني واضحا، ويحتاج إلى أن ينظر إليه بنزاهة وعدالة وحسن نوايا . ولذا فإن الاتصالات كانت مع قطر. حيث رفضت عُمان إغلاق الأبواب والنوافذ عليها كما فعلت مع مصر حين وقعت مصر اتفاقيات “كامب ديفيد” وحين جيشت أطراف عربية سياساتها ضد مصر، التي ظلت سلطنة عُمان ترى فيها السند الأكبر للأمة وترى فيها “عكازة الأمة” التي لا يستغنى عنها ولا ينكر فضلها إلاّ جاحد.. وبالمقابل بقي الحوار مع الأطراف المحاصرة لـ قطر سالكا فقد أثنى بن علوي على مواقف سعودية في لقاءاته مع وزير الخارجية السعودي وسجلت السلطنة موقفها داخل مجلس التعاون وخارجه من ما يدور في اليمن.. كما أجرت السلطنة لقاءات وحوارات مع مملكة البحرين من خلال زيارة وزير الخارجية البحريني سمو الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة إلى سلطنة عمان ووصوله إلى صلالة ليكون التوازن قائما بين الأطراف الخليجية كافة.
الدبلوماسية العمانية لم تتوقف وهي مرشحة لمزيد من الحركة، حتى نهاية هذا العام، فكثير من الأمور المطروقة والمطروحة ما زالت معلقة وبرسم إعطائها المزيد من الزخم، خاصة في المسألة اليمنية ، حيث ما زالت عُمان تستقبل أعراض الأزمة اليمنية وتتعامل معها بإنسانية وحذر واحتواء وأمل في الحل.
وفائض هذه الدبلوماسية الذي لم يكن في يوم من الأيام استعراضيا أو لإخفاء أزمات أو عيوب أو محاولات للهروب إلى الأمام ، هذا الفائض طال القضية الفلسطينية إذ توجه العمانيون ببوصلتهم الصائبة إلى حيث التمثيل الفلسطيني الشرعي في رام الله للتأكيد عليه وإسناده والحث على مزيد من العمل حتى لا تدمر كل الفرص التي حاولت السياسة الأميركية تدميرها بعد أن أصبحت هذه السياسات الأميركية في تأييد إسرائيل ملكية أكثر من الملك..
لم تستسلم الدبلوماسية العُمانية لليأس إزاء الأزمة الإيرانية وهي في ذلك تسابق بجهودها المخلصة تسارع التوتر وتعمل على شرح الطرفين بما يكفي للبدء في الحوار رغم التراكم الشديد للعقبات في وجه الأزمة…
الإيرانيون بدأوا أكثر إدراكا لأهمية دور السلطنة وأكثر تعويلا عليه وهو الدور الذي انضمت إليه دولا أوروبية مثل سويسرا بالتأييد وكذلك فرنسا وأطراف أخرى مثل روسيا وتركيا.
الدبلوماسية العمانية في ربع الساعة الأخير من هذا العام ما زالت تتحرك، رغم أن ضخامة الأزمات وتكبد المناخات أكبر من قدرة هذه الدبلوماسية، إلاّ أن الأمل يحدوها بأن “درهم وقاية خير من قنطار علاج”.
زخم هذه الدبلوماسية وقدرتها على التحرك يعكس استقرارا عُمانيا ومناخا متطلعا إلى مزيد من التعاون الدولي في مجالات الاستثمار والتبادل التجاري مع السلطنة وفي الاستفادة القصوى من الجغرافيا السياسية العُمانية التي تدرك مخاطر تغيير بعض المحطات على المحيط الهندي وبحر العرب في مغامرات لا يستطيع أصحابها حماية نتائجها، فاليمن التي كسرت موجات الغزاة عبر التاريخ ليس من السهل تقسيمها أو وضع اليد على جغرافيتها أو محاولة تبديل تضاريسها.. سواء في موانئها أو مدنها..
ولأن الدبلوماسية العُمانية صادقة فقد أرادت أيضا أن تجعل أجواء سمائها صافية من أي عدوان على أي طرف يمنع التحليق المضاد فوق سمائها..
لا نقول أن الدبلوماسية العمانية تشكل قاسما مشتركا بين كل الأطراف في الإقليم والمنطقة، لأننا لا نريد استعمال كلمة “قاسما” وتقسيم.. بل نستطيع أن نقول بثقة أن الدبلوماسية العُمانية تشكل جامعا مشتركا أعظما لكل الأطراف مهما بلغت الكلف.