لحظة الضغط الأمريكي الشديد على تركيا ليست لحظة إغداق الإغراءات الروسية لها. على العكس، إنها فرصة لاستدراج تنازلات منها، تحديداً في سوريا وفي بعض طموحاتها الأخرى.
الصراع بين الدولتين الكُبريين على تركيا ليس بجديد، وتشهد على ذلك حقبة الحرب الباردة لكنه دخل مرحلة حرجة منذ التدخل الروسي في سورية. قبل ذلك انهارت الشيوعية وتفكّك الاتحاد السوفياتي وتلاشت الوظيفة الاستراتيجية لتركيا في منظار واشنطن.
كان الحديث عن قرب خروج أميركا من المنطقة يعني تركيا خصوصاً، ولعل عاملَين ساهما في إبطائه أو تأخيره: زيادة جرعة الأسلمة في الحكم التركي، وتحوّل (بل تحويل) الأزمة السورية من صراع بين النظام ومعارضيه إلى حرب على الإرهاب.
ومع أن المتغيّرات زيّنت لرجب طيب أردوغان إمكان تحقيق مكاسب من صراع الدولتين، سواء باستغلال حاجتهما إلى تركيا وموقعها الجيوسياسي أو باستخدام أوراقها السورية تارةً عند الروس وطوراً عند الأميركيين، إلا أن رياح الواقع الدولي لم تجرِ دائماً في الاتجاه الذي تمنّاه أردوغان.
شكّل إسقاط طائرة «السوخوي» الروسية أواخر تشرين الأول (أكتوبر) 2015، بعد أقلّ من شهرين على التدخل الروسي في سورية، نقطة فاصلة اضطرّت أنقرة لاحقاً إلى استخدام دفء العلاقة بين فلاديمير بوتين وبنيامين نتانياهو لتصفية أزمتها مع موسكو، وإلى تغيير مقاربتها السورية من التحدّي إلى استعداد للتعاون.
ما لبث أن تمثّل في إخراج آخر الفصائل المقاتلة من شرق حلب أواخر 2016 ثم «اتفاق موسكو» الذي شمل إيران وبتأسيس «مسار آستانة» الذي عنى موافقة تركيا على ترويض الفصائل المعارضة واستدراجها إلى التكيّف مع الخطط الروسية، وبذلك اتخذ التقارب التركي – الروسي منحى عملياً لا مجال فيه للعودة إلى الوراء.
وكان الاستثناء الوحيد الذي ناله أردوغان من بوتين ألا يصرّ الأخير على تطبيع فوري للعلاقة بين أنقرة ودمشق وأن يعترف الاثنان بأن ثمة خلافات بينهما لكنها لن تحول دون تطوير تعاونهما.
أي أن تُترك للظروف، ومنها هواجس تركيا إزاء التحوّلات في شمال شرقي سورية والتسليح الأميركي للأكراد بمن فيهم حزب العمال الكردستاني (بي كي كي)، ومنها أيضاً ترابط أجندات بشار الأسد والإيرانيين.
في المقابل، كانت النقاط الفاصلة بين تركيا والولايات المتحدة كثيرة، وليست المحاولة الانقلابية منتصف تموز (يوليو) 2016 إلّا ذروتها. قبل ذلك، مرّت الدولتان بفترات متقلّبة، إذ كانت واشنطن دفعت أنقرة إلى خط متشدّد وداعم للانتفاضة السورية ولعسكرتها، ما أدى إلى قطيعة مع نظام الأسد بعد علاقة حميمة دامت خمس سنوات.
وعندما حاول أردوغان في عامي 2013-2014 إقناع باراك أوباما بخطط تدخّل تركي أكثر عمقاً في سورية لم يجد دعماً ولا تجاوباً، وفهم أولاً أن هذا الموقف ينسحب أيضاً على حلف الأطلسي تجنّباً لاستفزاز روسيا، وثانياً أن إدارة أوباما ليست في وارد تغيير النظام في سورية.
المرحلة الأخرى التي توتّرت فيها العلاقة كانت بعد انتشار تنظيم «داعش» واستعدادات الولايات المتحدة و «التحالف الدولي» للحرب عليه، إذ اتُّهمت أنقرة بتوفير تسهيلات للتنظيم ورُفض طلبها تولّي المعارك البرّية فردّت بمنع فصائل المعارضة السورية من قبول العروض الأميركية للمشاركة في مقاتلة «داعش».
وبعدما رضخت للضغوط ووقعت اتفاقاً مع «التحالف» (2015)، قرّرت واشنطن تكثيف اعتمادها على الأكراد في إطار «قوات سورية الديموقراطية» وذهبت في تسليحهم إلى حدّ أشعل الضوء الأحمر في أنقرة، خصوصاً مع تزايد عمليات «بي كي كي» في الداخل التركي.
منذ ذلك الوقت، راحت العلاقة الأميركية – التركية تقتصر على محاولات لترميم التصدّعات. لم يُبرم اتفاق منبج في مايو/أيار الماضي إلا لأن واشنطن أرادت تهدئة أنقرة بعد الاندفاعة التي أتاحها لها الروس لاجتياح عفرين وتأهبها للتقدّم شرقاً.
لم يكن الأميركيون مطمئنّين لأداء الأكراد في منبج السنّية، ولم يكونوا مستعدّين لتسليمها إلى النظام، أي إلى الإيرانيين، لذلك بدا الاتفاق مع أنقرة حلّاً وسطاً وإنْ لم يكن دائماً وقابلاً للتطوير تركياً، فمصير المدينة مرتبط عموماً بالترتيبات التي يمكن التفاهم عليها مع الروس في شأن شمال شرقي سورية.
وما دام الأكراد دخلوا في تفاوض مع النظام، بموافقة أميركية، فإن ملامح المرحلة المقبلة بدأت تتضح، أي أن النفوذ التركي سيبقى في الشمال الغربي بما فيه محافظة إدلب، حيث آخر معاقل الفصائل («المعتدلة»/ الجيش الحر، و «المتشدّدة»/ «هيئة تحرير الشام – (جبهة النصرة سابقاً).
وتريد روسيا حسم وضعها لمصلحة النظام إمّا بمساهمة تركيا أو باجتياح قوات النظام والميليشيات الإيرانية. هذا يمكن موسكو من انتهاز الأزمة المتفجّرة بين أنقرة وواشنطن لإرغام تركيا على تعديل خططها بدفع فصائل «الجيش الحر» التي وحّدتها أخيراً إلى اجتياح مناطق «النصرة» وإنهاء سيطرتها.
لا شك في أن المحاولة الانقلابية تبقى الحدث الذي زلزل العلاقات بين واشنطن وأنقرة، فالأخيرة مقتنعة بأن الأميركيين متورّطون وشركاء غير مباشرين للانقلابيين، وفي الاحتمال الأسوأ كانت تتوقّع إنذاراً أميركياً مبكراً لإجهاض المحاولة كونها دولة حليفة.
وطالما أن الانقلابيين صُنّفوا من جماعة الداعية فتح الله غولن فقد أمعنت السلطة في اجثتاث الألوف منهم من الجيش والإدارات الحكومية والقضاء ومؤسسات التعليم والإعلام، وفي الوقت ذاته ركّزت على وضع غولن كمقيم في الولايات المتحدة للمطالبة بتسليمه ومحاكمته.
بعد تفجّر الأزمة، غدت تلميحات أردوغان إلى التورّط الأميركي أكثر وضوحاً، إذ وضع الضغوط الاقتصادية في سياق المحاولة الانقلابية وما يسمّيه دعم الجماعات الإرهابية (بي كي كي)، لكن من دون اتهام مباشر.
لم تبذل إدارة أوباما حينذاك أي جهد استثنائي لتبديد الارتياب التركي بل وجّهت انتقادات حادة للحملة على جماعة «غولن»، ومع ترحيبها بمناقشة ملف الداعية غولن إلا أنها لم تصرّح بأي تقويم رسمي للاتهامات الموجّهة إليه ولم تبدِ أي استعداد لتسليمه.
هذا لم يمنع كبار ضباط البلدين من توقيع اتفاق آخر في إطار التحضير للمعارك ضد «داعش». ورغم مواقف أولية مشجعة في ظاهرها، لم تبلور إدارة دونالد ترامب أي مقاربة أكثر استجابةً لتوقّعات تركيا في أيٍّ من الملفات الخلافية (الأكراد، الدور التركي في سورية، قضية غولن، صفقات الأسلحة…).
بل إن واشنطن أشعرت أنقرة بأنها تراقب عن كثب تقاربها مع موسكو وعزمها على شراء منظومة صواريخ «إس 400» الروسية. ومن جهة أخرى، مارست موسكو الحذر ذاته حيال سعي تركيا إلى استعادة مكانتها لدى واشنطن.
ويعزو خبراء عسكريون – سياسيون في المعارضة السورية عدداً من حالات التصعيد الميداني المفاجئ في مناطق شتّى أو مجازر ارتكبتها المقاتلات الروسية من دون مقدّمات أو مبررات، إلى حاجة الأميركيين أو الروس إلى تحذير تركيا.
لم يكن متوقّعاً لقضية القس الأميركي الإنجيلي أندرو برونسون أن تتفاقم إلى حد تسميم العلاقة بين الدولتَين، إلا أن الاتهامات التركية ربطتها مباشرةً بقضية غولن، كما أن ترامب مدين انتخابياً للإنجيليين إلى حدّ المطالبة بإطلاقه «فوراً» ثم مباشرة فرض عقوبات على تركيا ومضاعفة الضرائب على صادراتها من الحديد والصلب إلى السوق الأميركية، فضلاً عن الضغط على عملتها…
مع إعادة تركيب أجزاء المشهد، من نهاية وظيفة تركيا في الاستراتيجية الأميركية، إلى زعزعة ترامب لحلف الأطلسي والتحالف التاريخي مع أوروبا، إلى الترقية الأميركية لمكانة إسرائيل الإقليمية وربطها بتسليم الملف السوري إلى روسيا (مع بعض الشروط)، إلى استمرار عزم أميركا على الانسحاب من المنطقة…
كل ذلك، معطوفاً على ثلاثية أردوغان (أسواق جديدة وشراكات جديدة وحلفاء جدد)، يعني أن نهاية التحالف الأميركي – التركي لم تعد احتمالاً مستحيلاً، بل مسألة وقت.
ولوهلةٍ، يُفترض إعادة تصوّر المنطقة كما كانت قبل الحقبة الأميركية، حين كانت روسيا ودول أوروبية تتصارع على النفوذ في تركيا العثمانية التي ربما تدفعها الضغوط إلى السعي أكثر فأكثر لاستعادة عثمانيتها، لكن الظروف غير مساعدة، لا دولياً ولا إقليمياً.