أثارت لائحة الأجور الجديدة للأطباء جدلاً صاخباً وكبيراً في الشارع، حتى داخل مجمع النقابات نفسه، وتداخلت الأبعاد المهنية الفنية باللعبة السياسية وبالمزاج العام السلبي في ظل الأوضاع الاقتصادية والمالية.
من الضروري بدايةً أن نفصل بين الأبعاد السابقة، بخاصة السياسي عن الطبي-المهني، المرتبط بالسياسات الصحيّة نفسها، التي تغرق منذ أعوام طويلة في حالة من الفوضى الواضحة تماماً، من دون وجود قدرة لدى الحكومات على وضع حدّ لذلك، ما أصاب سمعة القطاع الطبي الخاص بصورة عامة بالجشع والتجارة، وهي سمعة ظالمة، ولا يجوز تعميم ممارسات بعض الأطباء والمستشفيات على القطاع بأكمله أولاً، وثانياً لأنّ السياحة العلاجية لدينا أصبحت علامة مسجّلة للأردن في المنطقة، ومن الضروري أن نحميها، وهنا يأتي السؤال الحقيقي: كيف؟!
الجواب عن السؤال يعيدنا إلى جوهر المشكلة عندما نتناقش في اللائحة الجديدة، فنقابة الأطباء قدّمت مبرراتها على رفع الأجور، وحاولت ربط ذلك بتحقيق العدالة في أوساط الأطباء، ووقف تغول شركات التأمين الصحي على الأطباء، وضبط الارتفاع الفلكي في أسعار بعض الأطباء في القطاع الخاص.
في المقابل، وقد اطّلعت على بعض النسب والأرقام في اللائحة (لأنّها كبيرة جداً) هنالك رفع كبير في بعض التسعيرات سينعكس على الأغلب على فاتورة التأمين الصحّي للمواطن، والمقصود هنا في الطبقة الوسطى تحديداً، وهذا هو جوهر التخوّف. بالرغم من أنّ بعض الأجور الجديدة تبدو متواضعة تماماً مع ما وصلت إليه أجور بعض الأطباء في القطاع الخاص، الذين يتحدثون عن أرقام أعلى بكثير من هذه الأجور، فأصبح السؤال المهم: من الظالم ومن المظلوم؟ الأطباء أنفسهم، فيما بينهم، أم شركات التأمين أم المواطن وجيبه المثقل؟!
إذاً جذورة وامتدادات لائحة الأجور متعددة الأبعاد ومترامية الأطراف. لكن الحل هو في إعادة تصميم وترسيم سياسات صحيّة شاملة متكاملة، وإنهاء الفوضى العارمة في القطاع، وذلك يتطلب تفعيل المجلس الصحّي العالي، ليكون بيت الحوار الذي يجمع الأطباء والنقابة مع قطاعات أخرى وينظّم عمل المهنة، ويضع تصوراً جديداً، وهنالك تطبيقات على مثل هذه السياسات في العديد من دول العالم يمكن الإفادة منها.
من الضروري أن نلجم الانفلات في أجور بعض المستشفيات والأطباء أولاً، وأن نحقق العدالة داخل القطاع الطبي ثانياً، مع عدم إنكار التفاوت والتميّز لدى نسبة من الأطباء، لكن ذلك لا يعني أن يتحوّلوا إلى تجار، وثالثاً استحداث وظيفة ما يسمى الـGATE Keeper، المطبقة في بعض الدول المتقدمة، التي تقوم بدور فعّال وعميق في ضبط الفوضى الحالية (بخاصة في حجم فاتورة الدواء من فاتورة العلاج مقارنة بدول أخرى)، وأخيراً وهو الأهم فوترة القطاع، لمكافحة التهرب الضريبي.
آن الأوان ليكون هنالك بالفعل إعادة نظر في أهمية المجلس الصحي العالي وبنيته ودوره، لوضع Software جديد بما أن القديم تهاوى، ولديه استراتيجية صحية 2010-2016، لكننا لا نلمس لها أثراً على أرض الواقع في إنهاء الفوضى الراهنة.
قصة اللائحة تسيّست، وأصبحت مناسبة لتبادل اللكمات والضربات بين قوى عديدة، ولإحداث صراعات عميقة في أوساط المجتمع المدني من جهة، واستثمار مجلس النواب لها لـ”ردّ الجميل” للأطباء والنقابات، الذين أرادوا -بدورهم- تهميش مجلس النواب في مناقشة قانون ضريبة الدخل المعدّل.
مع الإقرار بتقادم اللائحة القديمة وانتهاء مدة صلاحيتها، وعدم التزام القطاع الطبي أصلاً فيها، إلاّ أنّ الاقتراح -وأتمنى ألا أكون مخطئاً- هو أن يقوم مجلس نقابة الأطباء بتعليق تطبيق اللائحة الجديدة والبدء فوراً بتدشين حوار وطني حول السياسات الصحّية، للوصول إلى معادلة جديدة في هذا القطاع الحيوي والمهم.