أن يأخذ الملك موقفاً حاسماً من الفساد فذلك إيذان بمرحلة جديدة. فالفساد خلال السنوات الماضية تحول إلى ظاهرة عامة تغلغلت مسرعة في جسم المجتمع و مؤسساته وثقافته، وفي إدارة مرافق الدولة إلى الدرجة التي اصبحت و كأنها النمط الاعتيادي. و هكذا ضاعت الكثير من الفرص على الوطن والمواطن، وأحجم المستثمرون عن المخاطرة بأموالهم، وتضرر الاقتصاد الوطني، وتراجع الأداء الإداري في الدولة إلى مستوى غير مقبول. مئات الملايين من الدنانير نهبت، وآلاف الرشاوي الصغيرة والكبيرة انتشرت، وعشرات المواقع تبوأها من ليس مؤهلا لها، بل يعيق العمل فيها، وعشرات القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تراجعت، وظهر خبراء في الفساد المعجل والمؤجل في اشكاله المالية والإدارية والمهنية والتخصصية،في إطار من «الضبابية» و«التساكت» وعدم الإكتراث بالمواطن و مستقبله.
اليوم هناك وقفة جادة لوضع حد للفساد، والانتقال إلى مرحلة من الصدقية و النزاهة، والأداء البعيد عن المصالح الفئوية و القرباوية و الشخصية. هكذا فهم المواطنون رسالة الملك وكلماته.
إن التحدي الأكبر هو كيف يمكن تحقيق هذا الهدف خلال فترة زمنية محدودة،ربما 3 سنوات حتى تعود البلاد إلى طبيعتها الصحيحة.إن التعميم في المواجهة لا يجدي، لأن لكل قطاع و موقع و مؤسسة و مهنة مداخل خاصة للفساد تختلف عن غيرها. وهذا يستدعي الإقتراب العلمي و العملي من الموضوع لتحقيق النتائج، و ربما في الإطار التالي: أولاً : تقوم كل دائرة ومؤسسة وقطاع وبقرار من مجلس الوزراء بوضع وثيقة تبين اشكال الفساد السائدة والمحتملة فيها والتي تتعلق بخصوصية أعمالها، إضافة إلى الأشكال العامة المعروفة. ثانياً : يتولى فريق عمل مؤقت مراجعة الوثائق وتعديلها حسب الضرورة، بالاستعانة بالخبراء لتأخذ صورتها النهائية. ثالثاً : تضع كل دائرة ومؤسسة الاجراءات اللازمة لمنع حدوث الفساد المشار اليه في تفاصيل الوثيقة. رابعاً : يصدر مجلس الوزراء قراراً يلزم الدوائر بتطبيق «إجراءات منع الفساد» و بالعقوبات التي يمكن اتخاذها عندالمخالفة. وبذا يصبح كل من يعمل في قطاع ودائرة وشركة ومؤسسة على معرفة بالاجراءات المحتمل مواجهتها. خامساً : تصدر كل مؤسسة و قطاع «مدونة سلوك» يلتزم بها كافة الموظفين و العاملين وفي مقدمتهم الإدارة العليا. سادساً : يكون فقدان الوظيفة هو الإجراء الأول لمخالفة مدونة السلوك أو ارتكاب أي نوع من أنواع الفساد. سابعاً : وضع «برامج اعلامية وتثقيفية مقنعة» تبثها جميع وسائط الإعلام في الأوقات المناسبة. ثامناً : إلتزام كافة المؤسسات التعليمية والتدريبية بالنزاهة الكاملة والإبتعاد عن أي فساد، حتى يعيش المتعلم بيئة سليمة نزيهة، أضافة إلى محاضرات تثقيفية يعدها الخبراء. تاسعاً : إلتزام الجهاز القضائي بسرعة البت في القضايا،و خاصة التي لها علاقة بالفساد وتكون العقوبات رادعة بعيدة عن التسويف والتخفيف. عاشراً : إلزام الجهاز الإداري للدولة والمؤسسات الكبرى والشركات العامة بالأداء النزيه، وسرعة الاجراء وخدمة المواطن بكفاءة ووفق القانون، وعقد الدورات المتخصصة لكل دائرة.
إن النزاهة قدوة، والفساد كذلك. وما لم يقتنع المواطن بنزاهة و عدالة الحكومة في كافة اجراءاتها، ابتداء من تسيير المعاملات،و مرورا بإنصاف المناطق المهمشة، وانتهاء بالتعيينات و الرواتب والمكافآت، فلن يتحرك بالاتجاه الصحيح. إن تحطيم الفساد ممكن بصدق النوايا، و جدية العمل، و نزاهة وشفافية الصفوف العليا للإدارات.