عروبة الإخباري- كتب سلطان الحطاب – تتحرك الاطفائية العُمانية أمام جرس الإنذار، وتتفاعل الزيارة الهامة التي يقوم بها وزير الشؤون الخارجية العماني يوسف بن علوي إلى واشنطن لخدمة أوساط إقليمية وعالمية واسعة كونها تأتي في محاولة لوقف التوتر الشديد في العلاقات الإيرانية الأميركية التي وصلت حداً عالياً يؤشر إلى الخطر, فالولايات المتحدة الأميركية صعدت من إجراءاتها وتصريحاتها ضد إيران بشكل كبير, وقد ردت إيران على التصريحات الأميركية على لسان أكثر من مسؤول بصورة مباشرة وغير مباشرة , مما استدعى ان تقوم عُمان بدور إنساني وتاريخي ظلت تقوم بمثله في مراحل عديدة حين كانت مثل هذه العلاقات تدخل في إطار التوتر الشديد والتأزيم.
هذه ليست المرة الأولى التي تنهض عُمان بدورها التاريخي والإنساني, فهي مدفوعة لذلك بحكم المخاطر التي يواجهها الإقليم الذي هي فيه وبحكم مصالحها في الأمن والاستقرار في منطقة الخليج المستهدفة وتحديداً أمام أهم معابر الطاقة في العالم وهو مضيق هرمز الذي تطل عُمان عليه ويشكل الحفاظ على أمنه جزء من سيادتها.
الوزير بن علوي كما قال: “لا يحمل رسالة من طرف” وهو لم يكلف مباشرة من أي جهة, وما يقوم به باسم بلاده يأتي استجابة طبيعية للمصالح الوطنية العمانية التي تدرك حجم المخاطر والتحديات الناجم عن التصعيد في منطقة الخليج والتي أصبحت منطقة تجاذبات خطرة في العلاقات الإيرانية الأميركية .
لقد قربت سلطنة عمان قبل عدة سنوات بين وجهات النظر الأميركية والإيرانية, واستطاعت بجهود مكثفة وبعيدة عن الاستعراضية أو العلنية (وقد تركت للتطورات أن تلمس أثارها مباشرة), قربت من وجهات النظر مما أذن بانفراجة ملموسة وفرت حاضنة للاتفاق النووي الأميركي الإيراني في مرحلة سابقة في عهد إدارة اوباما , ومع مجيء إدارة ترامب الخلافية (ليس من إيران فقط وإنما مع دول عديدة وحتى مع حلفاء الولايات المتحدة الأميركية الغربيين), فقد استشعرت الدبلوماسية العمانية التي تتمتع بقدرة معروفة في هذا المجال ضرورة التحرك سيما وان لها رصيداً سابقاً من النجاحات في هذه الدائرة الأميركية الإيرانية وفي دوائر أخرى شملت علاقات في الإقليم نفسه وبين الدول الخليجية في توترات ما زالت قائمة وخاصة في حرب التحالف العربي والدولي على اليمن.
كان الوزير بن علوي طبيعياً في ظهوره وهو يسعي بين الطرفين فقد تعود المراقبون أن يروا الوساطة العمانية في أكثر من موقع وموقف وحين اشتداد البأس والأزمات.
فالدبلوماسية العمانية لا تضع رأسها في الرمل، ولا تقول وهي تدرك مخاطر سريان الحريق “فخار يكسر بعضه” أو “يصطفلوا” لأنها تدرك تماما أن “درهم وقاية خير من قنطار علاج ” وانه كما قالت العرب (داو جرحك قبل أن يتسع)
ولذا جاءت هذه المبادرة العمانية في وقتها لتلتقط فرصة نادرة وقد تكون أخيرة من اجل إعادة إنتاج حالة تضمن تجميد التوتر والسعي إلى تفكيك هذه الحالة.
لقد ترك قرار ترامب الذي استنكره حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين في الغرب فراغاً في العلاقات الإيرانية الأميركية وتوتراً يشي بالخطر وينسحب على مساحة أوسع من العلاقات الثنائية ليصيب أطرافاً أخرى في المنطقة والإقليم.
ورغم تعدد القرارات للدور والمهمة العمانية إلا أن الدبلوماسية العمانية التي احترفت لمساعدة وتوظيف فائض الإمكانيات تمضي ليدرك المراقب لاحقاً أهمية الدور الذي تقدره الأطراف كافة، حين ترى انه منذور لبعد إنساني ومن اجل حفظ السلام والاستقرار الدوليين.
قد يتحول لقاء الوزير العماني مع الإدارة الأميركية الذي استمعت إليه بعناية إلى دينامية لخطط مرحلية لأنها كانت ترى دائما في الدور العماني الحيادية والحرص والبعد عن التوظيف الضيق.. استمعت الإدارة جيدا وقد تعود نتائج هذا الاستماع والتفاعل معه وطرح التصورات فيه، والتي قد يدرج فيها تصريحات ترامب الأخيرة والتي تحمل المفاجأة في سرعة الرد فيها، وفي اللهجة التصالحية الجديدة التي قد تكشف عن إمكانية وضع آليات مختلفة لم تأخذ بها الإدارة من قبل..
فهل يتحول الاستماع الأميركي والتفاعل الناتج عن زيارة بن علوي إلى خطة يترتب عليها زيارات مكوكية بين طهران وواشنطن؟ وهل ينتقل بن علوي إلى طهران -التي يعرف الوزير وجهة نظرها- أم تكتف المهمة العُمانية إلى محاولة تبريد العلاقات بين الطرفين؟ حتى لا تواصل الغليان ويتولى الطرفان العمل على صيغة جديدة تنتظرها طهران، وهي تمسك بمكاسبها في الاتفاق النووي وتحاول الإدارة الأميركية فيها أن تبرر انقلابها على ذلك الاتفاق وإلغائه..
الأيام القادمة ستعكس مدى نجاح المهمة العُمانية التي أخذت هذه المرة طابع العلن في الزيارة العُمانية لواشنطن خلاف المرة السابقة حين وفرت سلطنة عُمان من خلال دبلوماسية هادئة حاضنة مناسبة للاتصالات التي شملتها السرية في جوانب عديدة، وظلت في طي الكتمان ،إلى أن انكشفت نتائجها بالقرائن وأفصحت عنها الولايات المتحدة الأميركية نفسها وذكرها وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري زمن أوباما..
كانت الدبلوماسية العُمانية دائما تتنبه لردود الفعل وإدراك الهدف حين تختار وسائلها لتضمن نجاحا وتبقى في إطار الحياد والإقرار بفضلها لدى الأطراف المتنازعة.
فالدور الذي تلعبه هذه الدبلوماسية على مستوى الإقليم وحتى في البعد العالمي، ظل يكتسب البعد الإنساني وظل يكتسب صفة الإنصاف ممن يتعامل معهم إلّا من كان مغرضا أو معتديا أو صاحب هوى.
لقد رصدت عديد من مظاهر وتجليات هذه الدبلوماسية في مهمات محدودة وسريعة، وأخرى واسعة تعتمد على التراكم وحسن النوايا.. بعض تلك المهمات كانت ذات طبيعة إنسانية محضة في إنقاذ أرواح يداهمها الخطر أو الخطف أو تحديات المجهول، وبعضها ينصرف إلى نزع فتيل مفاجئ أو وقوع أحداث غير محسوبة لمساق من التوتر أو العداء الكائن في علاقات ثنائية متوترة.
فالمسطرة التي يقيس بها العُمانيون في دبلوماسيتهم لا تعتمد المكاييل المزدوجة وإنما مكيال واحد مشاهد ويمكن اختباره وهذا ما أعطى هذه الدبلوماسية مصداقيتها وحتى حين كانت زيارة الوزير بن علوي للقدس فقد جاء البيوت من أبوابها واستأذن أهلها فكانت زيارته الناجحة والمباركة من لدن الشعب الفلسطيني وقيادته والتي جرى الاحتفاء بها، في حين نُقدت زيارات عربية للقدس لم يدخل روّادها البيوت من أبوابها ولم يستأذنوا أهلها وكانت لديهم نوايا مختلفة.
وإذا كانت هذه الزيارة العُمانية قد أغضبت أطرافا أخرى، إلّا أن هذه الأطراف لم تجاهر بغضبها ولم توظفه كما ترغب لإدراكها أن الغالبية لا توافقها وإنما ترى في النقد غير الموضوعي هوى وقصد غير نبيل ..
المهمة العُمانية التي حملها وترجمها بن علوي في واشنطن غيرت المزاج الحاد للإدارة الأميركية لفتح المجال لخطوات أو مبادرات لاحقة، ومن هنا كانت تصريحات ترامب الجديدة بخصوص دعوته للحوار مع الإيرانيين ورغبته لقاء القيادة الإيرانية في أي زمان ومكان وبلا شروط.
أعتقد أن عين بن علوي هي على العقوبات المتصاعدة التي تستهدف الإيرانيين لأنها إن تواصلت ستشل المنطقة برمتها وتشعل أمام وقودها أعواد ثقاب تنذر بالخطر.
إن إعادة صياغة برنامج بديل للبرنامج النووي الذي ألغاه ترامب يمكن أن يملأ الفراغ، ويبدو أن ترامب أيضا بحاجة إلى هذه الصياغة حاجة إيران للتمسك بمكاسبها إن لم يزد، فهو يريد صيغة تحفظ ماء وجهه، حتى لا يبدو عدميا يلغي ولا يطرح البديل، وحتى لا يظل يقف محرجا أمام حلفائه الأوروبيين الذي ألحق الضرر بمصالحهم وعلاقاتهم مع إيران وباتفاقياتهم الاقتصادية المعقودة معها في أعقاب الاتفاق النووي دون أن يعوضهم عن ذلك أو يفتح لهم آفاق بديلة.
زيارة بن علوي ناجحة بكل المعايير، وقد استقبلتها أطراف خليجية ظلت محسوبة على الكفة الأميركية في توفير العلاقات الأميركية – الإيرانية لأنها رأت فيها إضاءة لجوانب معتمة لم تشأ الإدارة الأميركية الإفصاح عنها، خاصة وأن هذه الإدارة بدت حتى للأطراف العربية المنصاعة لها في منطقة الخليج وخارجها لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح هذه الإطراف، وقد تبيعها لإيران أو غيرها في نهاية المطاف كما يحدث الآن في ما تحمله صفقة القرن المباعة لبعض أطراف النظام العربي من مخاطر.
هذه فرصة وفرتها المبادرة العُمانية والتحرك السريع للدبلوماسية العُمانية في الوقت المناسب، وقد جرى التقاطها في واشنطن بغض النظر عن شكل هذا الالتقاط وفهمه، كما رأت فيها إيران فرصة مماثلة لما كانت استفادت منه عشية عقد اتفاقها النووي، فهل تتوج الوساطة العُمانية بالنجاح؟ وهل ستتحول من محاولة إلى نتائج ملموسة يلهج بها الإعلام الدولي، وتقر بها الدبلوماسية العالمية التي تتقطع الآن أنفاسها أمام مضيق هرمز وأمام التهديدات الأميركية التي إن نفذت فستؤدي بمصالح عديدة حتى لأولئك الذين صفقوا للتدخل الأميركي وحرضوا عليه..
هذا ما سنراه لاحقا في التطورات التي أعتقد أن العُمانيين يراهنون فيها على أهمية مبادرتهم لنزع فتيل شديد الاحتراق..