تختلف الخطابات النيابية الحالية في مناقشة الثقة عمّا سبق، بصورة كاملة، حتى منذ عودة الحياة النيابية الأردنية 1989، ليس من زاوية سقف الهجوم على الحكومة، بل من زوايا أخرى مرتبطة بدلالات ومدلولات كلام النواب لما وصلت إليه الأوضاع السياسية العامة في البلاد.
سأتوقف عند 3 دلالات برزت بصورة غير مسبوقة، وغير مألوفة، في الخطاب العلني العام للنواب، ليست جديدة لكنّها لم تكن تبرز كخطاب علني يكتسب المشروعية، بقدر ما كانت تمرر في الكواليس واللقاءات الجانبية، وهي أولاً الخطاب الجهوي وثانياً صراخ الأطراف وثالثاً الفجوة الطبقية الاجتماعية.
على صعيد الخطاب الجهوي، كان مرعباً بحقّ أنّنا نتحدث عن “العقد الاجتماعي الجديد” لتطوير “كفاءة الدولة” في الوقت الذي تدهور فيه خطاب نواب للمحاصصة ليس على صعيد المحافظات (كما كان يحدث سابقاً) بل على صعيد عشائري!
العشائر ركن اجتماعي مهم في البناء الاجتماعي، لكن هذا المفهوم يمكن أن يؤدي وظيفة مهمة في السلم الاجتماعي والتضامن والقيم الأخلاقية، ويمكن أن يذهب إلى اتجاه معاكس تماماً عندما نتجاوز مفهوم الدولة وسيادة القانون ونقفز عن الهوية الوطنية الجامعة، ونتحدث عن الأردن وكأنّه مجموعة عشائر متنافسة، في مرحلة “ما قبل العقد الاجتماعي” نفسه!
ليس المهم الآن النقد أو التأييد لهذا الخطاب، بل ما هو أهمّ بكثير السؤال: لماذا ظهر الخطاب بهذه الصورة العلنية من خلال بعض النواب؟ وماذا يعكس على صعيد علاقة الدولة بالمكونات الاجتماعية المتعددة؟.. فهذه الدلالة تستدعي تفسيراً وتحليلاً عميقاً من قبل السياسيين والنخب المثقفة.
الدلالة الثانية تتمثّل بوجع الأطراف وصراخهم، فكثير من النواب الذين جاؤوا من المحافظات المختلفة قدّموا خطابات مريرة عن مستوى الخدمات والأوضاع الاقتصادية والمالية، والبطالة والفقر والشعور بالحرمان الاجتماعي، وهي مسألة كانت سابقاً تأخذ صوراً ناعمة، أمّا اليوم فتتمثل بحديث صريح أقرب إلى قرع أجراس الخطر، بما يحمله ذلك من أبعاد ورسائل سياسية واجتماعية ومهمة وكبيرة.
الدلالة الثالثة لا تبتعد عن الثانية كثيراً، وتتمثّل في بروز الفجوة الاجتماعية والطبقية بوضوح، عند انتقاد الوزيرات والوزراء والمؤسسات المستقلة بأوصاف ذات دلالات اجتماعية وثقافية، وربما اقتصادية، كاستخدام مصطلح “الصلعان” و”العيون الزرقاء” وعند الحديث عن النساء، وهي عبارات تكررت على لسان العديد من النواب، بما يعكسه ذلك من إشارات على الفجوات بين المكونات الاجتماعية المختلفة.
المفارقة الكبرى أنّ الحكومة الحالية جاءت تتحدث عن “عقد اجتماعي” جديد، يقوم على قيم المواطنة وسيادة القانون وإعادة تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة، بينما هذه الخطابات تعود بنا لمرحلة ما قبل العقد الاجتماعي نفسه، أو الدولة.
ليست القصة إذاً لعبة “مصطلحات” إنّما أزمات خطيرة (فلنطلق أي مصطلح كـ”كفاءة الدولة”، على حدّ تعبير الصديق د. باسم الطويسي، وهو يقترح هذا المصطلح بالمناسبة بديلاً، بينما يقترح الصديق حسين الرواشدة مصطلح “الديمقراطية والعدل” كعنوان لمشروع الإصلاح الحكومي)، إنّما من الضروري أن نقرأ ما يحدث وأهمية البدء ببرنامج تغيير شمولي يأخذ بعين الاعتبار ما وصلت إليه الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية، بل والأخلاقية، من أزمات خطيرة ومؤذنة بما هو أسوأ..
الإصلاح المتكامل اليوم، تحت أي عنوان، أصبح دواء ضرورياً لجملة الأمراض التي تنهك الحياة العامة!