حدث ما كان مرجحاً، وحسم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الانتخابات الرئاسية ومن الجولة الأولى، بحصوله على 52.5 بالمائة من أصوات المقترعين… محرم إيجي الذي حلّ ثانياً بـ «31 بالمائة، من الأصوات، سجل سابقة في التاريخ الانتخابي لحزب الشعب الجمهوري، لم تسجل مثلها منذ أربعة عقود… بقية المرشحين للرئاسة، لم يسجلوا أرقاماً جدية تذكر، فكان الفوز من حظ أردوغان، ومن الجولة الأولى.
لكن فوز أردوغان، غير المفاجئ على أية حال، لم يقابله تقدم مماثل لحزبه الحاكم منذ ستة عشر عاماً، فقد سجل رصيد الحزب من المقاعد البرلمانية تراجعاً بسبع درجات عن آخر انتخابات برلمانية، إذ حظي بـ ـ42.5 من الأصوات (295 مقعداً)، تلاه الحزب الجمهوري 146 نائب، وحصل حزب الشعوب الديمقراطية (الكردي) الذي اجتاز عتبة الحسم على الرغم من الجهود المضنية التي بذلها الحزب الحاكم لإخراجه من المنافسة، على 67 مقعداً، ونال حزب الحركة القومية، حليف أردوغان وحزبه 49 مقعداً، وقطف حزب الخير (أو الحزب الجيد) حديث النشأة، 43 مقعداً.
اليمين القومي المتشدد، حلّ ثالثاً في الانتخابات التركية، فالحزبين الرئيسين اللذين يمثلان هذا التيار، حزب الحركة القومية وحزب الخير، حصدا معاً على 92 مقعداً، في تطور قد يعتبر مؤشراً على اتساع نفوذ القوميين الأتراك، وهو ما يفسر السياسات الصارمة التي انتهجها أردوغان، ضد أكراد بلاده وأكراد العراق وسوريا على حد سواء، ما ضمن له نصف المقاعد والأصوات الإجمالية لهذا التيار.
سيواجه الرئيس، بصلاحياته الدستورية الواسعة، قليلاً من المشاكل مع البرلمان متعدد الأحزاب، طالما ظل على علاقة تحالفية وثيقة مع الحركة القومية، لكنه سيفقد أغلبيته البرلمانية، إن انفكت عرى هذا التحالف الانتخابي لأي سبب من الأسباب، وهذا ما يرجح أن يواصل الرئيس وحزبه الحاكم، سياساته المتشددة حيال الأكراد على الغالب الأعم.
وظاهرة صعود التيار القومي، وتحالف أجنحة وازنة منه مع حزب العدالة والتنمية، ذي المرجعية الإسلامية، ليست وليدة هذه الانتخابات، ففي الانتخابات المبكرة عام 2015، حصل تحالف مماثل على وقع العمليات العسكرية الكبرى في مناطق جنوب شرق الأناضول ضد الأكراد، وأمكن لأردوغان وحزبه، أن يستحوذ على عدة ملايين من الأصوات التي كانت تصب لصالح التيار القومي، ما مكنه من الوصول إلى نسبة 49.5 بالمائة من الأصوات في تلك الانتخابات… أردوغان، ومنذ ذلك التاريخ، مزج الخطاب الديني بالخطاب الإسلامي، من دون أن يتردد في «مغازلة» بعض التيارات العلمانية والديمقراطية بين الحين والآخر، لضمان الفوز في الانتخابات، وكان له ما أراد.
ومثلما قلنا في مقال سابق، فليس من المتوقع أن يطرأ تغيير جوهري في السياستين الخارجية أو الداخلية لتركيا، «المزيد من الشيء ذاته»، هو المرجح للسنوات القادمة… مزيد من حكم الرجل / الفرد والقائد الكارزيمي، المدعوم بدستور مفصّل على مقاسه… وفي السياسة الخارجية المزيد من النزعات التدخلية في كل من سوريا والعراق، واستمرار حالة الاستقطاب الإقليمي في المنطقة، من ضمن المحاور التي ارتسمت في الأعوام القليلة الماضية.
أردوغان بخاصة، وحزب العدالة والتنمية على نحو ما، نجحا في شطر المجتمع التركي إلى شطرين، متساويين تقريباً، ومتنابذين… الاستقطاب الحاد في تركيا، لا تماثله استقطابات في أية انتخابات في الديمقراطية المستقرة أو الناشئة… وليت أن هذا الاستقطاب توقف عند الجغرافيا التركيا، بل امتد إلى العالم العربي، دولاً وحكومات ومجتمعات، لكأنه لا يكفي هذه الشعوب ما هي فيه وعليه من انقسامات واستقطابات، حتى تبحث في الانتخابات التركية، عمّا يعمق انقساماتها.
والحقيقة أن التراشق والجدل الدائرين حول نتائج الانتخابات، تعكس حالة خواء مستفحلة تنهش الرأي العربي، فثمة فريق، علماني متشدد في الغالب، جعل من أردوغان «شيطاناً رجيماً» وألصق به وزر كل الشرور التي تواجهها المنطقة برمتها، مقابل فريق آخر، إسلاموي بالغالب، رفع الزعيم التركي إلى مرتبة «خامس الخلفاء الراشدين»، فلم يتوقف عن الدعاء له بوصفه «عامود الأمة وحامي حماها»… وثمة من توزعت مواقفهم وفقاً لانحيازاتهم السياسية والإيديولوجية وتوزعهم على العواصم والمحاور العربية، التي غالباً ما تتخذ مواقف حادة من الرجل وحزبه وتجربته.
كنت آمل، ومن باب مستقبل التجربة الديمقراطية التركية، ومن أجل استعجال عودة الاستقرار في العلاقات العربية التركية، أن تنتهي نتائج الانتخابات على غير هذا النحو، لكن الشعب التركي اختار، وعلينا أن نحترم اختياره، وأن نتعامل مع نتائج وتداعيات هذا الاختيار.