تنطلق الدول في بناء علاقاتها على قواعد ثابتة يأتي في مقدمتها الأمن القومي والمصالح وتأمينها، مع ما تفرضه من وجوب احترام كل طرف للآخر وعدم التدخل في شؤونه واحترام قراره السياسي وسيادته واستقلاله، إلا أن هذا العرف الحاكم في العلاقات الدولية نحا منحى شاذًّا بسبب السياسات الاستعمارية الامبريالية للقوى الكبرى المتنافسة، وقد بدا على نحو واضح من خلال سياسات التبعية والارتزاق لدرجة العمالة والخنوع التي بنت وفقها الدول القزمية وغيرها أنظمتها السياسية والاقتصادية والأمنية وحتى عقائدها وأيديولوجياتها لتكون الخادم الأساسي للقوى الامبريالية والاستعمارية.
هذا الفرز ـ الخارج عن الأطر الحاكمة والقوانين الناظمة للعلاقات الطبيعية ـ يبدو في أجلى صوره من خلال تطورات الأحداث والمشاهد التي تكتظ بها الساحة العالمية بوجه عام والساحة الإقليمية بوجه خاص، ويبرز هذا الفرز بصورة أكبر مع المقارنة التي أنتجها احتدام المشهد بمواجهاته السياسية والدبلوماسية والعسكرية بين أقطاب القوى الكبرى؛ بين الولايات المتحدة وسياسة القطيع التي بنت عليها نظامها العسكري والسياسي والاقتصادي في إطار محاولتها الهيمنة على العالم، وبين روسيا الاتحادية وسياستها القائمة على ضرورة احترام القانون الدولي، وشريعة الأمم المتحدة، ووجوب أن تكون المرجعية للعالم في خدمة قضاياه العادلة، وليست عصا غليظة بيد الولايات المتحدة وتوابعها ترفع على من لا يستجيب مع سياساتها الاستعمارية ومشاريع هيمنتها، ويظهر ذلك من خلال المشهدين الدولي والإقليمي حيث الرعونة والحماقات الأميركية المتكررة تبدو في أقبح صورها، فقد تابع المشاهد مستوى العنجهية والرعونة لدى واشنطن تجاه ملف كوريا الشمالية بالتلويح باستخدام الأسلحة النووية والتباهي بكثرته في القبضة الأميركية، وذلك من أجل إرغام بيونج يانج على الانقياد والخنوع للولايات المتحدة، وهو ما استلزم من القيادة الكورية الشمالية مبادلة التلويح وأن الإصبع على زر إطلاق السلاح النووي على سواحل الولايات المتحدة.
أما في الشأن السوري فحدِّث ولا حرج عن مستوى الانحدار والانحطاط الذي وصلت إليه السياسة الأميركية في تعاملها مع الخصوم، سواء لجهة الخروج عن حدود اللياقة والأدب بإطلاق الرئيس الأميركي دونالد ترامب أوصافًا لا تليق به أساسًا كرئيس أقوى دولة في العالم تجاه الرئيس السوري بشار الأسد، أو لجهة الخرق المكرر والفاضح للقانون الدولي، وتجاوز شرعة الأمم المتحدة بشن عدوان غاشم على سوريا بناء على فبركات وأكاذيب مستنسخة ومفضوحة في الوقت ذاته، في حين تبدو السياسة الروسية على النقيض من الماء إلى الماء، سواء عبر الجهود التي تبذلها في شأن الملف الكوري الشمالي، وتشجيع القيادة الكورية على حل هذا الملف العالق مع قوى ما يسمى المجتمع الدولي وتحديدًا الولايات المتحدة بطرق متحضرة تقوم على الحوار الذي ينتج تفاهمات يمكن البناء عليها لإنجاز اتفاق شامل يجعل من كوريا الشمالية دولة طبيعية في العالم تتمتع باحترام الحقوق والسيادة والعلاقات، ويحفظ للولايات المتحدة مكانتها الرمزية في العالم التي تدافع عنها، أو سواء عبر الجهود اللافتة التي تقودها موسكو حيال ملف الأزمة السورية، ومد اليد لواشنطن من أجل مساعدة الفرقاء السوريين على الحل السياسي عبر حوار وطني سوري ـ سوري، لكي يحددوا نظامهم السياسي، ويصوغوا دستورًا جديدًا، ويشكلوا حكومة وحدة وطنية، وقبل ذلك لا بد من التعاون على محاربة الإرهاب بكل جدية ومصداقية، وتخلي واشنطن وأتباعها عن دعم التنظيمات الإرهابية بذريعة دعم ما تسميه “معارضة معتدلة”، وكذلك تخليها عن محاولات دعم مكون على مكونات أخرى للمجتمع السوري لأسباب سياسية واستعمارية وتدميرية.
المؤسف أن الولايات المتحدة لا تزال ترفض كل المقاربات التي أبدتها كل من روسيا الاتحادية أو الدولة السورية والدول المحبة للسلام والاستقرار، وأخذت تتصرف خارج الشرعية الدولية والقانون الدولي، في مقاومة يائسة منها لحقيقة أن العالم قد تغير، وأنه بات عالمًا متعدد الأقطاب، وقد شنت في سبيل ذلك أكثر من عدوان مباشر وغاشم على سوريا، مع مواصلتها لدعم ما تدَّعي محاربته من تنظيمات إرهابية كتنظيمي “داعش والنصرة”، متوهمة أنها بهذا العدوان وهذا الدعم ستعيد العالم إلى الوراء حيث قطبيتها الأحادية، وذلك بكسر الشوكة السورية التي تواصل نزف ما تبقى من رصيد أخلاقي وإنساني وديمقراطي وسياسي وعسكري، ظلت أميركا تدَّعيه، وتشن وفقه حروبها العسكرية والاقتصادية وتفرض العقوبات وتسقط الحكومات.
وأيًّا كانت الخلاصة التي وصلت إليها الولايات المتحدة بعد عدوانها الذي أشركت فيه قوتين كبريين (بريطانيا وفرنسا) لدعم ما راهنت عليه من إرهاب لتدمير الدولة السورية وإسقاط حكومتها الشرعية، والذي تعاملت معه سوريا بجيشها الباسل والخبير، بكل حرفية بإسقاط معظم الصواريخ وحرفها عن أهدافها بأسلحة سوفيتية قديمة تم تحديثها، إلا أن إلحاح الرئيس الأميركي دونالد ترامب على لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين له دلالاته، ومن المؤكد أن طلب اللقاء يقف وراءه عتاة الصهاينة وفي مقدمتهم جون بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي، خصوصًا وأن الأمر يأتي بعد التأكيدات الروسية وعلى لسان سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي أنه ـ التزامًا وأخلاقيًّا ـ يجب على موسكو أن تسلم سوريا أنظمة الدفاع المتقدمة من منظومة صواريخ “أس 300″، والوفاء بما تحتاجه من عتاد وأسلحة يمكنها من صد أي عدوان عليها، ما يعني كسر التوازن مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، وقدرة سوريا التعامل مع أي خطر يهدد أمنها، وبالتالي ستكون الطائرات الحربية المعتدية إسرائيلية كانت أو غير إسرائيلية في مرمى هذه الصواريخ المتقدمة، وهذا سيعطي ميزة إضافية للحليف الإيراني الذي يستعد لرد الاعتبار والانتقام لقواته وقواعده في مطار “التيفور” التي استهدفها الطيران الحربي الإسرائيلي، وأوقع حوالي أربعة عشر جنديًّا إيرانيًّا قتيلًا. ويتزامن مع سياق طلب ترامب لقاء بوتين ـ بغض النظر سيتم أم لا ـ مع ما قاله السفير الأميركي السابق لدى سوريا في مقالة له في صحيفة “الشرق الأوسط” إن ثمة اتفاقًا واسع المجال بين المحللين السياسيين في واشنطن، الآن، على أن الحرب بين “إسرائيل” وإيران في سوريا باتت أمرًا لا مفر منه. ولا يعرف أحد متى ـ على وجه التحديد ـ ستنشب هذه الحرب، لكن الموقف الراهن بين “إسرائيل” وإيران يتغير ويختلف بوتيرة سريعة. فقد صارت القوات الإيرانية داخل سوريا أكبر مما كانت عليه قبل 3 أو 4 سنوات من الآن، ويربطها تحالف واضح بالقوات السورية وروسيا. وبحسب فورد، تشعر القيادة الإسرائيلية بحالة من الإحباط، وأن “تل أبيب” لا يمكنها التعويل على المساعدات العسكرية الأميركية المباشرة ضد الوجود العسكري الإيراني في غرب سوريا، وأنه إن أرادت “إسرائيل” تنفيذ مزيد من العمليات العسكرية، فعليها الانطلاق على هذا المسار منفردة. وهذا في تقديري ما لا يتأتى مع ما تعتزم موسكو إبداءه تجاه سوريا في سبيل الدفاع عنها، وكذلك مع استعداد طهران للانتقام لجنودها، مع اليقين التام من قبل محور المقاومة بأنه حان الوقت ليشرب كيان الاحتلال الإسرائيلي من الكأس ذاتها، وأن يأكل من السم الذي طبخه ضد سوريا وحلفائها