”الاتجاه العام في دولة الاحتلال، وعند غالبية صنّاع القرار السياسي، والأمني، والعسكري، يعتقدون بضرورة وضع هدف استراتيجي على جبهة شمال فلسطين المحتلة مع لبنان، ويتمثّل من وجهة نظرهم بــ”منع الحرب بدلا من تأخيرها المؤقت”، وتحقيق هذا الهدف يرتبط حسب رأيهم بثلاثة عناصر، أولها ردع قوى المقاومة في لبنان.”
بدأت حكومة نتنياهو منذ عام مضى تُسَخِّنُ الأجواء والمناخات، سياسيا، بل وعسكريا، مع لبنان، وتُطلق أصوات الوعيد والتهديد باستهداف لبنان بشكل غير مسبوق، فالوزير (جلعاد أردان) يقول خلال مؤتمر الجاليات اليهودية في أميركا الشمالية والذي انعقد في القدس المحتلة مؤخرا، يقول “إنَّ إسرائيل ترى في لبنان المسؤول عن أي اعتداء تتعرض له من جبهة الشمال”. مضيفا قوله “إنَّ إسرائيل ستعمل ما هو ضروري لحماية مصالحها، وستعمل في الفترة التالية على توجيه ضربات استباقية للبنان بشكل عام.
التقديم أعلاه، يؤكِّد حالة التوتر السائدة لدى صنّاع القرار في دولة الاحتلال، جراء الواقع العملي مع صمود لبنان ورفضه التنازل في ملفي الحدود البرية والبحرية، وما بات يُعرف بالبلوك البحري رقم تسعة الذي يَزخر بالغاز والنفط ويقع في المياه الإقليمية للبنان.
وفي الأسابيع الأخيرة زاد التوتر بين دولة الاحتلال ولبنان على خلفية تطورين مهمين، أولهما البدء في أعمال بناء الجدار من قبل دولة الاحتلال على طول مسار الحدود بين فلسطين المحتلة ولبنان، والتوغل في الأراضي اللبنانية بحدود الجدار في ثلاثة عشر بؤرة انحرف فيها الجدار ومواقع “الجيش الإسرائيلي” إلى داخل أراضي لبنان، شمال الخط الذي تم ترسيمه في اتفاق الهدنة لعام 1949. وثانيهما الأمر المتعلق بحدود المياه وحقول غاز في مياه البحر الأبيض المتوسط، ومحاولة دولة الاحتلال السيطرة على مساحات من المياه الإقليمية للبنان بعد اكتشاف النفط والغز في أعماقها.
في مسألة الجدار، استندت دولة الاحتلال، وساقت حججها بأنها اعتمدت على خريطة الهدنة، لتقرير مسار الجدار الذي تبنيه بين لبنان وفلسطين المحتلة، وهي الخريطة التي رُسِمَت بمقياس (1: 50 ألفا)، وبسبب ذلك كانت هناك مواقع كان فيها عرض الخط (ثُخنه) في الخريطة الأصلية هو خمسين مترا عرض على الأرض، الأمر الذي أدى لنشوء التباينات. وخلال السنوات التالية ركَّزَ لبنان على ثلاث عشرة بؤرة بين حدود لبنان وفلسطين المحتلة، تجاوزتها قوات الاحتلال، وأهمها ثلاثة مواقع هي: شارع في جنوب لبنان يَمُرُ في قرية العديسة مقابل مستعمرة (مسكاف عام) في الجليل. كما تم تحديد منطقة (بلوك 9) عند رأس الناقورة ضمن حدود لبنان. وهناك منطقة مزارع شبعا… الخ.
دولة الاحتلال، بدأت في الأسابيع الأخيرة في منطقة رأس الناقورة بالعمل على بناء جدار فاصل، وذلك في إطار مشروع يستمر لعدة سنوات تُنفذه قيادة جيش الاحتلال في منطقة شمال فلسطين المحتلة، لتعزيز البنية التحتية العملانية على طول الحدود بين فلسطين المحتلة ولبنان، من البحر الأبيض المتوسط وحتى جبل الشيخ في الجولان السوري المُحتل. ويتضمن المشروع إقامة جدار بارتفاع يصل إلى عشرة أمتار، ويزيد عن عشرة أمتار في مواقع معينة، خاصة قرب المستعمرات الملاصقة لحدود لبنان مع فلسطين المحتلة.
وتأتي عملية إقامة هذا الجدار، بحسب موقع صحيفة “يديعوت أحرونوت”، بهدف منع السيطرة الطوبوغرافية على المنطقة بالنار أو الرصد أو المناطق التي تساعد في إقامة مسارات اختراق خفية. وفي الغالب فإن الجدار يقع بالقرب من مستعمرات حدودية بين لبنان وفلسطين المحتلة، مثل مستعمرة (المطلة) ومستعمرة (مسكاف عام) وصولا لمستعمرة كريات شمونه، ويَدَّعي جيش الاحتلال أمام قوات الطوارئ الدولية (اليونيفيل) أن أعمال إقامة الجدار تقع على جانب فلسطين المحتلة دون أي تجاوز للخط الحدودي مع لبنان.
لبنان الرسمي احتجَّ وعلى أعلى مستوياته من سلوك دولة الاحتلال، وأكَّدت الحكومة اللبنانية أنَّ “إسرائيل” تقوم باقتطاع مساحات من الأراضي اللبنانية، وقد أصدرت أعلى هيئة أمنية في لبنان تعليمات إلى الجيش اللبناني بمواجهة قوات الاحتلال إذا ما أصرّت على التحرك قدما بخطط بناء جدار حدودي بطول الحدود، واصفة ذلك بالاعتداء على سيادتها. وقال بيان حكومي لبناني “هذا الجدار، في حال تشييده، سيعتبر اعتداء على الأراضي اللبنانية”. وأضاف البيان “أعطى المجلس الأعلى للدفاع توجيهاته للتصدي لهذا التعدي لمنع إسرائيل من بناء ما يسمى بالجدار الفاصل على الأراضي اللبنانية”.
الاتجاه العام في دولة الاحتلال، وعند غالبية صنّاع القرار السياسي، والأمني، والعسكري، يعتقدون بضرورة وضع هدف استراتيجي على جبهة شمال فلسطين المحتلة مع لبنان، ويتمثّل من وجهة نظرهم بــ”منع الحرب بدلا من تأخيرها المؤقت”، وتحقيق هذا الهدف يرتبط حسب رأيهم بثلاثة عناصر، أولها ردع قوى المقاومة في لبنان. وثانيا الامتناع عن شن حرب اختيارية وحساب دقيق للخطوات، بحيث لا تؤدي إلى التصعيد في المنطقة عموما. وثالثا اتباع تكتيك “تعقيد المعضلة”، حيث تعطي “إسرائيل” اشارات لإمكانية القيام بعملية وقائية في لبنان.
الصحف “الإسرائيلية” في أعدادها المُتتالية خلال الفترات الأخيرة، زادت من نشر التصريحات والتقديرات “الإسرائيلية” أعلاه، وأشارت لسلسلة من الرسائل التي نقلتها “إسرائيل” علنا في الفترات الأخيرة عبر أطراف دولية لحكومة لبنان، وفيها أنَّ “اسرائيل تقترب بخطوات كبرى إلى حرب اختيارية”، وبعبارة ثانية أسمتها “حرب مبادرة” في لبنان.
وفي جوهر الموضوع، إنَّ التهديدات التي تطلقها “اسرائيل” تجاه لبنان، وحتى سوريا تعود إلى عقيدة الردع في المفهوم “الإسرائيلي”، حيث تتسلق “إسرائيل” شجرة عالية وتعرف مسبقا بأنها إما ستنزلق منها مع ذيل بين الساقين دون أن تحقق شيئا، أو ستضطر إلى استخدام القوة. وفي حالة الهجوم في لبنان يدور الحديث “إسرائيليا” عن يقين عالٍ للخروج إلى حرب، إذ إن الاحتمال لردع من الوجهة “الإسرائيلية” متدنٍّ.
من جانب آخر، إنَّ تقديرات المتابعين للواقع القائم الآن على الحدود الشمالية بين لبنان وفلسطين المحتلة، تتحدث عن توازن الرعب فأيّ مواجهة محتملة ستكون باهظة الكلفة، في ظل خشية “إسرائيلية” أكبر من الماضي. وبالرغم من أنّ أيا من فرقاء النزاع لا يرغب فعلا بالذهاب نحو حرب لا يمكن السيطرة على مجرياتها، فإنّ السياق الجديد في المنطقة يتسّم بغياب الحَكَم كما قلتُ وقواعد اللعبة.