النهج الذي تقوم به الحكومات الأردنية المتعاقبة لا يؤشر الا على هدف وحيد وثابت وهو افقار الشعب وتجويعه وافراغ العقل الجمعي من أية مضامين فكرية قادرة على التحليل والفهم .
هذا النهج الذي بدأ منذ مطلع التسعينيات مع بدء توجه الحكومات الى فرض ضريبة المبيعات ، بعد ان كانت الدولة تعتمد على فرض ضريبة الدخل التي يستطيع تحملها القادرون من ذوي الدخل المرتفع ، حيث أدى ذلك الى تذويب الطبقة الوسطى بالكامل ، وهي الطبقة التي يعول عليها في كل المجتمعات لاحداث تغييرات محورية في المجتمع ، من أجل تحقيق التنمية والتطور والتقدم المنشودين .
ان المتتبع لسياسات الحكومات الأردنية لا يحتاج الى وعي كبير ولا الى فكر متنور كي يدرك أنها تراكم حجم التحديات وتزيد من المشكلات الاقتصادية بدلا من ايجاد الحلول العملية و الواقعية ،وتكرس نهج التبعية لاقتصادات الدول الغربية ،بدلا من انتهاج مبدأ الاعتماد على الذات والتحرر .
لقد نجح هذا النهج في تقويض الركائز الرئيسية للمجتمع الأردني التي تتمثل في توفر الكفاءات التعليمية والمحافظة على القيم والمنظومة الأخلاقية والاهتمام بالقضايا المحورية ، فدخلنا في متاهة ” تشييء ” الانسان والفكر والثقافة ، فأصبح لكل شيء ثمن ، ولم تعد هناك قيمة لأي فكرة أو فهم أو معرفة الا بمقدار ما تدر من مكاسب ، في ظل الافتقار للمعايير وتغييب سيادة القانون وتفكك المنظومة الأخلاقية .
الخطير في تلك المعطيات ان العلاقة بين الشعب والحكومات أصبحت شبيهة بالعلاقة بين القط والفأر ، وهذا مؤشر خطير لأي مجتمع ، فالشعب يشعر بأن الحكومات المتعاقبة أثقلته بالضرائب وارتفاع الأسعار التي لم يعد قادرا على التعايش في ظلها ، وتروج كل ذلك باسم ” التصحيح الاقتصادي ” فأدخلت المواطن في حالة من التخبط الذي لا تخفي تداعياته السلبية على أحد ، اذ أدى ذلك الى زيادة معدل الجريمة والسرقة والاختلاس والفساد المالي والاداري والفكري ، ناهيك عن الدخول في دائرة العنف ، بدءا من الأسرة الذي وصل لنحو 21 ألف حالة منذ بداية العام الماضي 2017، عدا عن العنف المجتمعي في المدرسة والجامعة والشارع …الخ.
وكانت النتيجة المباشرة لكل ما سبق هو تكريس سياسة عدم الثقة بين المواطن من جهة والحكومة ومجلس الأمة من جهة أخرى ، بسبب معرفة المواطن أن السياسات الحكومية ، وخاصة في مجال الاقتصاد تراكم عجز الموازنة وتفاقم من المديونية ، الى جانب فرار رؤوس الأموال والمستثمرين ، اذ تشير المعطيات الى اغلاق نحو 2000 مصنع في السنوات الخمس الأخيرة في الأردن وانتقالها للعمل في دول أخرى مثل مصر والمغرب وحتى الامارات بسبب البيئة الاستثمارية الجاذبة .
لقد وصلت الأمور في هذا البلد الى سيادة حالة المعرفة الكاملة بأخطاء الحكومات والمؤسسات الرسمية بالترافق مع عدم مقدرة المواطن على عمل شيء ، فحتى طبقة النخبة من المفكرين في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية تم تغييبها ولا تصل أصواتها لصانعي القرار ، من أجل ترسيخ الصورة السلبية للوضع الاقتصادي والفكري والاجتماعي .
ولاتخفى على أحد الانعكاسات السلبية لكل تلك الممارسات في احداث خلل اجتماعي مريع وخلل فكري وثقافي ضرب التفكير الجمعي ، فأصبح الشباب ، الذين ينظر اليهم كرافعة اجتماعية مهمة في احداث التطور والتقدم ، غير معنيين الا باعلاء قيمة العشيرة كحاضنة اجتماعية ضرورية بدلا من التفكير بالانتساب الى حزب سياسي ، لأنهم باتوا يدركون ان حكاية التنمية السياسية وتفعيل الحياة الحزبية ما هي الى مسلسل طويل لا يجدي نفعا في ظل قوانين الانتخاب المتغيرة سنويا والمفصلة بشكل لا ينسجم مع التنظيرات السياسية التي تركز دوما على ضرورة المشاركة في الانتخابات وتنشيط الحياة الحزبية ، فالتنظير الرسمي الايجابي في جهة، والممارسات على أرض الواقع تنبىء بمؤشرات سلبية من جهة أخرى .
اذا سألنا أي مواطن مهما قل تحصيله العلمي ، فانه يستطيع النقاش والتحليل حول ما يسمى بالأزمة الاقتصادية للأردن ، بل ونذهب أبعد من ذلك ،غير مبالغين ، حينما نشير الى أنه يستطيع اقتراح حلولا عملية لبناء دولة تعتمد على الذات ،بدلا من اتباع سياسة الضرائب والتغول على جيوب المواطنين بحجة سد العجز التجاري ، حيث ان الحلول المنطقية للخروج من أزماتنا ” الاقتصادية ، والاجتماعية ، والسياسية ، والفكرية ” متداولة بين الناس العاديين ، فكيف بصانعي القرار والممسكين بزمام الأمور ، فان المنطق يبين لنا أنهم يعرفون ويدركون أكثر ، اذ يبقى السؤال هنا ، لماذا يتم التغاضي عن الحلول كافة لأزماتنا ، ويتم اللجوء الى ما يفاقم أزماتنا تماما ؟ الذي يقودنا الى سؤال أخطر ومهم وهو هل هناك ” مؤامرة ” تحاك ضد هذا البلد الطيب لتعزيز أزماته والتضييق فيها على المواطنين في معيشتهم …..؟