مصادر القوة الناعمة في السياسة الخارجية العمانية “الفكر السلطاني أنموذجا “(1-2)/محمد الفطيسي

”.. تعد السياسة الخارجية لسلطنة عمان من اكثر الأمثلة التاريخية الحديثة على تطبيقات المثالية الإيجابية أو القوة الناعمة في السياسة الخارجية على رقعة الشطرنج الشرق أوسطية. والتي يقصد بها: القدرة على ممارسة السياسية الأخلاقية والتأثير في الآخرين دون استخدام لأدوات القوة الصلبة, وهي كذلك القدرة على الجذب والضم دون اكراه، أو استخدام لقوة المنطق السياسي والدبلوماسي كوسيلة للإقناع,”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يعد الفكر السياسي للقائد احد ابرز موارد قوة الدولة, ويمكن تميز ذلك من خلال تلك الأفكار والمعتقدات السياسية التي يعبر فيها القائد عن فلسفات ومعتقدات معينة ووجهات نظر خاصة حيال مختلف القضايا التي يتشارك والمجتمع الدولي حولها في البيئة السياسية الدولية. ويتم تأكيدها عبر التطبيقات العملية والوقائع والتصرفات والسلوكيات السياسية للدولة على ارض الواقع. بالتالي فإن فكر القائد السياسي نفسه قد يتحول بطريقة ما إلى قوة سياسية صلبة تستخدم الإخضاع للإقناع عبر وسائل وادوات عسكرية أو دبلوماسية صلبة, واخرى ناعمة تستخدم الاقناع للإخضاع عبر وسائل وادوات دبلوماسية الناعمة أو الطرية.
عليه فإن من ابرز موارد القوة الناعمة للدول والنابعة من فكر القيادة السياسية. تلك القيم والمبادئ والأفكار والموجهات السياسة التي تحكم وتتحكم بسياساتها وعلاقاتها الدولية, ويمكن ان تشكل نوعا من قوى الجذب التي تجعل من الآخرين في المجتمع الدولي يرغبون في تبني تلك الأفكار والفلسفات السياسية. أو يمكن ان يكون ذلك من خلال تقاليدها السياسية والدبلوماسية التي تعبر من خلالها عن اصالة تاريخها السياسي، والتي تنعكس ايجابا واعجابا على المستوى العالمي كما هو الحال على الداخل الوطني في مرحلة من المراحل التاريخية.
إذا نجد ان القيادة بحد ذاتها تعد شكلا أو امتدادا لممارسة الهيمنة والنفوذ والقوة عبر التاريخ السياسي من خلال شخصية وافكار الحكام والنخب السياسية، حيث تعرف القيادة السياسية بأنها (القدرة على ممارسة القوة بأبعادها المختلفة المادية والمعنوية، والمقصود بالقوة المعنوية امتلاك وممارسة التأثير والنفوذ). فالحقيقة ان هناك تأثيرا وتأثرا متبادلا وواضحا بين الشعوب والشخصيات القيادية من جهة خصوصا تلك المؤثرة في البيئة الدولية سواء كانت تأثيراتها اقتصادية أو سياسية أو علمية أو ثقافية، أو غير ذلك، وذلك عبر ما تقدمه من افكار وفلسفات ومعتقدات وارادات جاذبة للآخرين، مثلما هناك تأثيرات متبادلة بين الشعوب والأحداث التاريخية نفسها من جهة أخرى.
فالتاريخ كما يؤكد على ذلك انجلس هو (النتيجة المتكونة من هذه الإرادات – والمعتقدات والفلسفات – الكثيرة التي تعمل باتجاهات مختلفة وتكون تأثيراتها في العالم الخارجي متعددة الجوانب, وكذلك العوامل التي تؤثر في دوافعه عوامل مختلفة، فهناك دوافع خارجية ودوافع داخلية، مثل الحماس في سبيل احقاق الحق والعدل، والكراهية الشخصية، أو حتى اهواء فردية لها اثرها في التاريخ) وبالتالي فإن الفلسفة والفكر السياسي للقائد السياسي ينعكس بكل وضوح على مخرجات سياسات دولته في الشأن الخارجي كما هو حال سياساتها الداخلية، سواء كان ذلك على شكل توجهات أو سياسات أو قرارات.
على ضوء ذلك يتضح لنا ان (المعتقدات السياسية والفكرية – للقيادة السياسية – تمثل محددا اساسيا في صنع السياسة الخارجية، على اعتبار ان هذه المعتقدات الشخصية هي التي تؤسس نظرة القائد للعالم ومن ثم تؤثر على سلوكه في تقرير السياسة الخارجية, وبالتالي فهي التي تحدد في النهاية نوعية وطبيعة التعامل مع الدول والأطراف الخارجية).
وهو ما يتبين جليا من خلال السلوكيات والتصرفات السياسية للسياسة الخارجية العمانية في البيئة الدولية عبر مواقفها وسياساتها وتعاملاتها الرسمية في مختلف القضايا الدولية التي كان لها فيها دور مباشر أو غير مباشر، الأمر الذي يؤكد بدوره إلى حد بعيد جدا انعكاس الفكر السياسي وكذلك المعتقدات السياسية لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله – تجاه تلك القضايا والتوجهات والتحولات في البيئة السياسية الدولية .
على اعتبار ان جلالته – حفظه الله – يمثل ابرز جوانب التوجيه والتشريع السياسي فيما يتعلق بموجهات ومبادئ السياسة الخارجية العمانية.
بناء على ذلك يعد الفكر السياسي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه – احد ابرز موارد القوة الناعمة للسياسة الخارجية العمانية, والتي كان لها ابرز الأثر الإيجابي على سلوكيات وتصرفات وقرارات وتوجهات السياسة الخارجية العمانية منذ العام 1970 إلى يومنا هذا حيال مختلف القضايا الإقليمية والدولية، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط، وقد برز ذلك بوضوح من خلال مظهرين من مظاهر السياسة الخارجية العمانية، اولهما ما يطلق عليه بتوسيم السياسة الخارجية العمانية عبر المبادئ السياسية الموجهة لها، وكذلك المبادئ الأمنية النابعة منها من جهة، اما من جهة اخرى فكان ذلك عبر المظهر الآخر والذي اتضح بجلاء من خلال الصور الذهنية للسياسة الخارجية العمانية، والتي اراد حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله – تسويقها للعالم سواء كانت تلك الصور صور انسانية أو اخلاقية أو ثقافية أو غير ذلك مما يمكن ان يعبر عن القوة الناعمة للسياسة الخارجية العمانية عبر الفكر السياسي لجلالة السلطان – حفظه الله.
وتعد السياسة الخارجية لسلطنة عمان من اكثر الأمثلة التاريخية الحديثة على تطبيقات المثالية الإيجابية أو القوة الناعمة في السياسة الخارجية على رقعة الشطرنج الشرق أوسطية، والتي يقصد بها: القدرة على ممارسة السياسية الأخلاقية والتأثير في الآخرين دون استخدام لأدوات القوة الصلبة, وهي كذلك القدرة على الجذب والضم دون اكراه، أو استخدام لقوة المنطق السياسي والدبلوماسي كوسيلة للإقناع, وعند جوزيف .س.ناي مؤسس هذا المفهوم، يقصد بها: قدرة الدولة على خلق وضع يفرض على الدول الأخرى أن تحدد تفضيلاتها ومصالحها بشكل يتفق مع هذا الإطار الذي تم وضعه أو بمعنى آخر أن تقوم هي بوضع أولويات الأجندة الداخلية لغيرها من الدول).
ويلاحظ انه وبالرغم من صعوبة المحافظة على طيف ثابت ومستقر من القيم والأسس الأخلاقية العابرة للحدود الوطنية في عصر الفوضى وسيطرة المادية السياسية وزيادة تناقضات بيئة المصالح السياسية والجيوسياسية في البيئة الدولية، في عالم لا شك ان التمسك فيه بهذا النوع من موجهات السياسية الخارجية الأخلاقية يزيد من التحديات والضغوط السياسية لأي دولة في بيئة تزداد فيها الفوضى والصراعات القائمة على تناقض واختلاف المصالح الجيوسياسية والتدخلات الذرائعية وتقلب العداوات والصداقات بشكل كبير وسريع جدا، الأمر الذي جعل الكثير من التصرفات وسلوكيات الدول تمتزج بأشكال كثيرة ومتعددة من الموجهات السياسية المتناقضة احيانا وغير المستقرة احيانا اخرى، ما كون مزيجا مختلطا من التناقضات السياسية والعلاقات الدولية ذات الطابع المضطرب وغير المستقر, والتي ميزت هياكل وبناء السياسة العالمية في القرن 21 . الا ان السياسة الخارجية العمانية تمكنت إلى حد بعيد من صناعة تلك المقاربة والمواءمة الصعبة بين المثاليات والماديات السياسية.
قد يقول قائل: ان مثل هذه التناقضات في السياسة والعلاقات الدولية هي الأصل الغالب على طبيعتها منذ القدم، وقد حفلت بها العديد من العصور السياسية الماضية، وبالتالي هي ليست حكرا على طبيعة السياسة الدولية المعاصرة، وهو امر صحيح إلى حد بعيد، الا ان الفارق ما بين تلك الحقب السياسية التي حفلت بها على سبيل المثال طبيعة النظام الدولي في فترة القرون 16- 20 ومتناقضات السياسية الدولية للقرن 21، ان هناك مدخلات جديدة ومتطورة برزت على مسرح المؤثرات في هياكل البناء الجيوسياسي الراهنة، كالتطورات التي حدثت في مجال الثورة الاتصالاتية وتكنولوجيا المعلومات والعولمة العابرة للقارات، ما قلص من حجم البيئة الدولية بشكل كبير، وجعل من تصرف أي دولة بغض النظر عن حجمها الجغرافي يؤثر بشكل اكبر اتساعا وأشد قوة في بقية الدول الأخرى من ذي قبل، فيما يسمى في المفهوم السياسي بمبدأ الاعتمادية، والذي يعني ان ما تفعله دولة ما سلبا أو ايجابا يؤثر في باقي الدول في النظام ذاته.
ملاحظة: مصدر هذه الدراسة هو كتاب: التوجهات الكبرى في بنية النظام العالمي وتأثيرها على المبادئ الأمنية الموجهة للسياسة الخارجية العمانية . الفصل الثاني. الناشر: مكتبة الضامري : اصدار العام 2018م .

Related posts

الرئيس عباس في إسبانيا… يحصد ما زرع

السمهوري يطالب المجتمع الدولي بدورته 79 مطالب بعزل إسرائيل

«فائدة» خفض «الفائدة» على المواطنين والاقتصاد الأردني!* عوني الداوود