عروبة الإخباري – خلف الستارة الصفراء يوجد رواية من دم شعب نازف ولحم تستشعر طراوته أحياناً لأنّه لطفل، وربما خشونته لأنّه لأب يعاني شغف العيش، ولابدّ له أن يعمل ويعمل بجد كي يطعم أبناءه في المنطقة الأكثر اكتظاظاً بالسكان والفقر والبطالة في العالم، وكذلك إرادة الإنسان على الحياة والحرية.. غزة.. أرض العزة.
تلك المنطقة التي تشكّل مكان الرواية التي تدور أحداثها في مخيم جباليا الصمود، ومنبت الشهداء حين تهدي أرواحهم أمّهم الأرض لأختها السماء في رحلة الشهادة.
والزمان يبدأ بآب اللهاب قبل أربعة أعوام وينتهي به بعد عام، والأبطال رجال ونساء، كبار وصغار، أطفال ودمية هي هادي، الشاهد على كل ما حدث من سفك للدماء، وقتل للإنسان من قبل عدو صهيوني غاشم، إبان الاعتداء الشهير والحقير على غزة، حيث كان العدو يقتنص بريق البراءة من عيون أطفالها الفزعين والمدرجين برؤية دماء من ماتوا أو جرحوا من ذويهم أو حتى رؤية أنفسهم على شكل شهداء صغار لم يبلغوا سن النضال بعد، وهم يواجهون بأجسادهم الغضة أسلحة هذا المحتل الفتاكة، الذي يطارد حمام فلسطين حتى في عشه، يقطّع أشجاره ويقتل فراخه، ويلاحق من بقوا يغردون في السماء للاستقلال بعيداً عن سياجه وجدرانه، ويحلمون بحرية هذه الأرض المباركة التي لابدّ يوماً أن تنالها، ذاك لأنّ الأرض لنا كعرب وفلسطينيين، وكلّ ما عليها زائل دوننا.
إنّ هذه الرواية ترصد لتشبث الإنسان الفلسطينيّ بأرضه بل وببيته حتى لو كلّفه ذلك أن يدفن تحت أنقاضه إثر غارة، لا تفتّ في عضد إرادة أهل غزة بقدر ما تزيد من وحدتهم وتمسكهم بهم، بعد أن لم يبق لهم سوى أرضهم، وما علاها من سماء تصّاعد أرواحهم إليها دون قيد أو شرط أو تصريح بين كل طلق وقصف.. لم يبق لهم إلّا بحرهم الذي يسعى هذا العدو إلى تضييقه عليهم حد جعله مستنقعاً لليأس، لكن أمواجه تأبى الانحسار رغم البارجات والزوارق الحربية والحصار، وهي تهرول ساعية لتقبّل خد ساحل غزة هاشم في أسطورة العناق الأزلية بين البر والبحر صباح مساء.. أمواج تهمس لساحل غزة قائلة: لك ولشعبك الفلسطينيّ الخلود وطول البقاء، ولمستعمرك الخزي والعار، وإن جار الأهل والمجتمع الدولي الأصم الكاذب عليك، وكذلك خذلك الجار.
خلف الستارة الصفراء رواية ما أن تنهيها وتغادرها، حتى تكتشف كم هم أبطالها ماكثين فيك، إذ كيف لك أن تنسى براءة سلمى، وأنت ترى كيف يكبر الطفل الفلسطينيّ بعد كل قصف وحصار، لا عاماً بعد عام ككلّ الصغار.
كيف لك أن تنسى أحمد، وأحمد الصياد ذاك الشاب المجد المجتهد المكافح في الحياة، والمقاوم دفاعاً عن أرضه دون رياء، الساعي للشهادة دون أن ينالها رغم إصابته وجرحه.
أحمد ابن ذاك الرجل المناضل كي يعيش بكرامة رغم فقره، ولا شيء على هذه الأرض يعدل قداسة فقير شريف، كأمجد الحرّ مهما اتكأت عليه أنواء العمر وصعاب الحياة، فأخذت منه زوجته ونصف أبنائه ذات غارة، عندما ظنّ أنّ الحرب أنبل من أن تقتل طفلاً بل طفلين له، وأنّ عدوه قد يتحلى بقدر قليل من شهامة ألّا يقصف النساء الفلسطينيات، بحجة أنّ أرحامهنّ معامل متحركة لصناعة أطفال الحجارة ورجال المقاومة.
لن ننساك يا أمجد ولن ننسى والدك، وهو يختار الموت واقفاً أمام البيت قبل أن يهوي حنيناً للبقاء، قبيل أن يلجأ إلى مدرسة الوكالة بعد أن هدته أرزاء اللجوء، ورأى ما رأى وعاش ما عاش من الفقد، وذلك في مشهد إنساني عميق الأثر لعجوز يقتله الحزن لحظة خروجه من بيته الذي قد يعود إليه بيتاً وربما ركاماً، غفت تحت سقفه الساجد بقايا آثار السعادة التي توزعت في جنباته أيام عائلة كانت كلها هنا.
لن ننسى هند أيضاً، وهي الدالة على الأم الفلسطينيّة الطيّبة كلَيلة قدْر والمعطاءة كبحر، حين لا تكون أماً لنور فقط، بل لكلّ أطفال غزة المحتاجين لها بعد أن فقد بعضهم حنان أمه كسلمى.
لن ننسى.. لن ننسى المعلمة سمر، إذ كيف للفرح أن يموت في عامه الأول من الزواج إثر قصف صهيوني خسيس لمدرسة تابعة للأمم المتحدة، بل كيف يموت الفلسطيني جنيناً لم يرتكب حتى خطيئة التنفس وفق وجهة النظر اليمينية المتطرفة لهذا العدو المتعطش لدمنا الفلسطينيّ وفرقتنا العربية.
مات الجنين، ووالده معاذ يفقده ويفتقد أمه التي حملته فرحةً بقدوم فلسطيني جديد بعد شهور لم تأتِ، وأتت نهايتها ونهايته، ووالده المقاوم هناك في أحد أنفاق غزة، ومعه صديقه وقائده ونسيبه عمر، الذي يحزّ قلبه فراق أخته الشهيدة، في مشهد مروع للحزن، وهو يظهر كوشم على خد روح ثكلى، تأبى لحظات وخزه الزوال من ذاكرة هؤلاء الأبطال، وكذلك القراء، حين يغدو النفق مسعى لزميلهم وأخيهم في النضال أحمد، وهو يسعى بين صفا عمر ومروة معاذ، في ذلك المقطع الدسم الأثر والتأثير، والذي لا تملك أمامه إلا أن تخبئ دموعك بين ثنايا الكتاب، وعلى ضفتي نهر هذا الوجع الإنساني المنساب نزفاً على شكل حروف ناطقة بالصدق والحسرة على حكايا بشر واقعيين هناك، رصدت لهم هذه الرواية الواقعية التسجيلية كشاهد على ما حدث، وكأرشيف أدبي، تناضل صاحبته الروائية المبدعة ندى جمال صالح بسلاح الكلمة المعبرة والعبارات المؤثرة لرواية مفعمة بحياة أبطالها، رغم موت بعضهم فيها لا فينا.