عروبة الإخباري – استحضر سياسيون ملامح من زمن جلالة الملك الراحل الحسين بن طلال، طيب الله ثراه، ومقدرته القيادية الفذة في تجنيب الأردن وأهله الأزمات والتحديات الصعاب، في زمن كثرت فيه الحروب والانقسامات وبروز أحزاب وتيارات قومية واشتراكية وبعثية.
واستعرضوا مقتطفات من مواقف وحياة الراحل شكلت مفاصل مهمة في تاريخ الأردن، حيث شيد الدولة وفرض وجودها لا على المنطقة فحسب، لا بل والعالم كذلك، مؤكدين أن الحسين هو من أعطى الأردن أبعادا تعدت حدوده الجغرافية والسكانية وموارده، وجعله أكبر من حجمه، كما جعل للدولة هيبة داخليا وخارجيًا.
جاء ذلك خلال ندوة عقدت في الجامعة الأردنية أمس بعنوان “الحسين وفن الحكم: شهادات شخصية” نظمها مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة، ضمن سلسلة نشاطات برنامج “كرسي الملك الحسين” في ذكرى رحيله التاسعة عشرة والتي تصادف اليوم الأربعاء.
كما أشار هؤلاء السياسيون إلى أن الراحل كان من العبقريات العربية والدولية الفذة، ولا تزال آثار إنجازاته ماثلة في الداخل الأردني والإقليمي والعربي والإسلامي والدولي.
وقالوا إن مشكلة الحسين الأساسية كانت هي كيفية تحقيق السلام والتعامل مع إسرائيل، حيث كان يريد السلام ويعرف ما يريد، لكنه لم يتمكن كما نزال والعالم حتى اليوم، معرفة ماذا تريد إسرائيل.
وحضر الندوة رئيس الجامعة الأردنية الدكتور عزمي محافظة ورئيس الديوان الملكي السابق عدنان أبو عودة، وعدد من الوزراء والنواب السابقين وكبار المسؤولين في الجامعة وجمع من شخصيات الدولة.
وقال رئيس الديوان الملكي الهاشمي فايز الطراونة إن الملك الحسين كان من العبقريات العربية والدولية الفذة، ولا زالت آثار إنجازاته الكبيرة ماثلة أمامنا في الداخل الأردني والإقليمي والعربي والإسلامي والدولي.
وأضاف ان الراحل قائد تقلد الحكم بسن مبكرة، في دولة حديثة النشأة والاستقلال وفقيرة الموارد المالية والطبيعية وسط حالة جيوسياسية غاية في التوتر، حيث بدأ الحسين مسيرة حكمه وسط مصفوفة من الاضطرابات والأحداث، وبقي الأردن صامدا في هذا الخضم المتلاطم، وحقق الإنجازات الضخمة في بناء الدولة الحديثة وقواتها المسلحة الأردنية – الجيش العربي، ومؤسساتها العامة والخاصة ما يفوق موارده التي أتيحت له، وحين توفى الله الملك الباني جاء العالم برؤسائه ومسؤوليه للمشاركة في جنازة الراحل العظيم، وكل هذا يطرح سؤالا، كيف حدث ذلك؟.
وتابع هناك أسباب عديدة لها مساس مباشر بالإنسان الأردني ومعدنه ووعيه وانتمائه، وبالإنسان الأردني القائد الملك الإنسان الذي كتب مجلدات عديدة في فن القيادة، وتحلى بصفات وقناعات آمن بها، فضلا عن استشرافه الدقيق للمستقبل.
ولفت الطراونة إلى بعض من الصفات التي تميز بها الحسين، تتمثل بالقدرة الذاتية على تحمل المسؤولية بشجاعة وإقدام، فقد كان الحسين شجاعا وتحمل عبء المسؤولية، ويعلم أنه سيكون ملكا لمملكة شحيحة الموارد وسيتسلم عمادة آل البيت الهاشمي.
وأشار إلى أن حكم الراحل استند إلى رسالة الثورة العربية الكبرى التي ورثها عن أجداده، الثورة النهضوية والقومية، حيث بدأ الملك الراحل منذ اليوم الأول يبحث عن التحديث والاستغلال الأمثل للموارد المتاحة، وركز على التعليم والصحة للعلاقة المباشرة بتنمية وتهيئة المورد البشري.
كما لفت، في حديثه عن الموارد البشرية، إلى الرعيل الأول من رجالات الوطن المدنيين والعسكريين وشيوخ العشائر الأردنية الذين رافقوا جلالة المغفور له بإذن الله الملك المؤسس عبدالله ، طيب الله ثراه، وحملوا مع الحسين الراية يجمعهم حب الوطن، فكان التناغم والتواصل بين الحسين وهؤلاء الرجال إحدى أهم سمات قيادته.
وأوضح الطراونة أنه كان جوهر القيادة لدى الراحل الجيش العربي المصطفوي المؤسس على الولاء والعزيمة، فصارت القوات المسلحة الأردنية نواة الدولة والأساس الذي تمحورت حوله شؤونها، لافتا إلى القرار الجريء للحسين بتعريب الجيش رغم تبعاته آنذاك.
وأكد أن من أبرز صفات الحسين البحث عن البدائل الممكنة وعدم الاستسلام أو الارتهان للواقع، مثلما كان يتميز بالتواضع الجم والأدب الواضح وأدب المخاطبة، ونكران الذات والتسامح والعفو، والحس الإنساني والكرم الشخصي في الحالات التي تستدعي المساعدة عند المرض والدراسة.
وشدد على أن الراحل كان حريصا عند اتخاذ قراراته المصيرية، التمسك بالإجماع العربي، وهذا منسجم مع رسالته النهضوية.
واستعرض الدور الكبير للحسين في الدفاع عن القضية الفلسطينية، باعتبارها القضية المركزية، قائلا “دخل الحرب من أجل القضية، ودخل السلام من أجلها”.
ولفت إلى أن الحسين احترم الدستور ولم يعلُ عليه ومارس الفصل بين السلطات، وحافظ على المنجز والنهج الديمقراطي، وكان لديه إدراك كامل للوضع الدولي، ولديه متابعة حثيثة حتى في أدق التفاصيل الدولة ومؤسساتها، ولم يكن نقص المال عائقا في تنفيذ المشروعات الحيوية.
وفي رده على مداخلة حول نقص وجود مؤلفات تتحدث عن مسيرة الحسين الملك والقائد، أكد الطراونة أهمية وجود هذه المؤلفات والتوثيق لها، لافتا إلى أنه يعمل حاليا على كتابة مؤلف (بين العهدين) في إشارة إلى عهد الراحل، وجلالة الملك عبدالله الثاني.
وأكد أن الهاشميين حافظوا على هوية الأردن في الوسطية والاعتدال، في عصر التطرف، وأصبحت مصدر احترام العالم له.
من جهته، قدم وزير الخارجية الأسبق كامل أبو جابر إضاءات عن حياة الراحل، واصفا إياه بـ”القائد القومي العربي”.
وقال “كان الراحل رقيقا لطيفا، صاحب ذوق، وإنسانا”، مضيفا أن مشكلته الأساسية كانت هي كيفية تحقيق السلام والتعامل مع إسرائيل، حيث كان يريد السلام ويعرف ما يريد، لكنه لم يتمكن كما نزال والعالم حتى اليوم، معرفة ماذا تريد إسرائيل”.
وأشار أبو جابر إلى الأوراق النقاشية التي طرحها جلالة الملك عبدالله الثاني، ومن أهمها: أن الدولة تسير على نهجها الإنساني المنفتح، وتؤكد للمواطن أن دولته لأجله وتجتهد لمستقبله وإعطائه الأمل بحياة أفضل”.
وتابع “تلك الأوراق تؤكد أن مسيرة الأردن نحو دولة المستقبل مستمرة على نهج الانفتاح والاصلاح.. مسيرة منفتحة على ذاتها والعالم، توفيقية وسطية انتقائية، لا تعصب فيها ولا إنغلاق، ولا تزمت فيها، تنتقي وتفاضل بين بدائل هدفها العمران والتقدم لا التخشب العقائدي”.
وزاد أبو جابر “كان لي شرف أن عايشت وعاصرت ملوك الأردن الأربعة الذين تعاقبوا على عرش الأردن”، مؤكدا أن كل واحد منهم “ترك بصماته لا على تاريخ الأردن وحسب بل والمنطقة والعالم كذلك، فجميعهم اتقنوا فن الحكم وكيفية إدارة الأزمات”.
وأوضح “صحيح أن الملك المؤسس عبدالله الأول أرسى القواعد وبعض المعالم المهمة للدولة، لكن حقيقة الأمر بأن الحسين هو من شيد الدولة، وبشخصيته وإرادته فرض وجودها لا على المنطقة فحسب، لا بل والعالم كذلك”.
وأكد أبو جابر “أن الحسين هو من أعطى الأردن أبعادا تعدت حدوده الجغرافية والسكانية وموارده، وجعله أكبر من حجمه، كما جعل للدولة هيبة داخليا ودوليا”.
وبين “إذا ما تميز الحسين بشيء، فهو باحتكامه إلى العقل وقراءة التاريخ والواقعية، دون التخلي بالطبع عن قيمه وإيمانه وأخلاقه”، قائلاً كان “يحزنه ما يجري في دول الجوار، حيث لم يتخل يوما عن سياسة العمل ضمن وفاق أو إجماع عربي”.
وأضاف “أن الحسين استلم مقاليد الحكم وهو يافع، في وقت كانت الأمة تعاني فيه من هول صدمة الإحباط، مدركا وفي وقت مبكر أبعاد التحدي الصهيوني وتغلغله في حضارة الغرب”.
إلا أن الراحل كان “واعيا لمحدودية الإمكانات العربية، وضرورة التعامل مع الواقع والإنحناء أمام العاصفة”، حسب أبو جابر الذي تابع “كان الحسين محبا لشعبه، يخاطبهم باستمرار ويستمع إلى آرائهم، ويستشرف تطلعاتهم”.
وبين أبو جابر أن من المزايا الأساسية التي مكنت الحسين من أن يجعل من الأردن بلدا يختلف عما حوله “ثقته اللامحدودة بنفسه، الأمر الذي مكنه من اتخاذ قرارات صعبة ومصيرية حتى في مقتبل حياته”.
وشدد على “أن الراحل أدخل ثقافة سياسية حديثة وجديدة إلى منطقة وبلد لم تعرفها من قبل. سياسة بناء دولة عصرية حديثة تحتكم إلى العقل وحكم القانون والمشاركة السياسية المدنية والوسطية والابتعاد عن العنف”.
وقال أبو جابر “إن الراحل كان رجل سلام مع نفسه وأسرته وشعبه، ورجل سلام مع العالم، لكنه السلام المشرف لا سلام الاستسلام”.
بدوره، انحاز نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية السابق الدكتور جواد العناني إلى سرد بعض من تفاصيل حياته وأبرز المحطات التي جمعته بالحسين، منذ أن وطأت قدماه أرض الأردن وعائلته قادما من الخليل في العام 1952، مؤكدا “أن الراحل العظيم سيبقى في ذاكرتنا عبر الليالي والأيام مهما طال الزمان”.
وركز العناني، الذي شغل أيضا منصب رئيس الديوان الملكي الهاشمي، في سرده للقصص على حدين فاصلين ما بين لحظة تتويجه ومشاهدته لجلالته منذ كان صغيرا، ولحظة وفاته وما تخللهما من سبعة وأربعين عاما قضاها في العمل والإنجاز، واصفا إياها بـ”الملحمة”.
وقال “يصعب نسيان الحسين، ومناقبه وملامح إنسانيته.. هذا الرجل العظيم، الإنسان المتكامل الأبعاد”، مؤكدا أن من أنجب عبدالله الثاني ملكا ما مات، بل تجددت ذكراه في ابنه الوفي الرجل الهمام البديع والذي يبني إنجازا على إنجاز، وفخرا على فخر، وصنيعا بعد صنيع.
وأضاف أنه بالرغم من أن هذا الأسد من ذاك الأسد، إلا أن لكل منهما أسلوبه الخاص به، حيث أن تغير الزمان يملي تغييرا في الأسلوب، موضحا أن لجلالة الملك عبدالله الثاني أسلوبه النابع من تكوينه الخاص فهو ميال إلى الإنجاز والتركيز على المخرجات أكثر من المدخلات، والعبرة عنده أن المجهود وحده مهما كبر لا يكفي إلا إذا اقترن بنتائج مرجوة.
وكان مدير مركز الدراسات الاستراتيجية الدكتور موسى شتيوي، الذي أدار الندوة، قال إن الهدف منها هو استحضار ملامح من زمن الراحل ومقدرته القيادية الفذة في تجنيب الأردن وأهله الأزمات والتحديات الصعاب، ولنستعيد بعضا من صفحاته الوطنية الخالدة.
وأكد “لقد ترك لنا الراحل وطنا اردنيا عزيزا كريما نفاخر به الدنيا، وترك لنا قائدا يسير على دربه ونهجه ويستلهم فكره، لتتواصل المسيرة انجازا وبناء وتضحية رهانا على الانسان الاردني ارادة وكفاءة وقدرة”.
وتابع شتيوي أن المركز من خلال هذا البرنامج يحاول تسليط الضوء وبمنهجية علمية على حقبة حكم الراحل العامرة بالعطاء والتفاني والانجاز، بهدف تقديم قراءة أردنية اكاديمية لمرحلة مهمة من تاريخ الأردن المعاصر، لتكون مرجعا للباحثين والدارسين والأجيال القادمة.