بإتقان وفنيّة ملحوظة رسم الزميل هيثم حسّان في تقريره الإخباري أمس في الغد بعنوان “أسئلة عميقة ومحرجة عن الذات الأردنية الجريحة!” الأجواء التي خيّمت على مشهد مؤتمر الاعتماد على الذات في البحر الميّت، والنقاشات العميقة، على هامش الجلسات، وفي أروقة المؤتمر بين المشاركين، بخاصة تساؤلات وخلاصات الأستاذ عدنان أبو عودة التي أثْرت الحوار الرسمي وغير الرسمي.
سلّط حسّان الضوء على جملة من المفاتيح المهمة لفهم هذا المناخ التشاؤمي – إلى درجة ما- وهو الذي اشتق منه عنوان التقرير “أي الذات الجريحة”، وكنّا نتمنى ألاّ يكون تشاؤميّاً، لكن من قال إنّ توصيف الواقع وتفكيكه ليس جزءاً من الحلّ والخروج من الأزمات، لذلك إذا كنّا نتحدث عن “الذات”، فإنّها – كما وصفها حسّان- “جريحة”!
أحد الأسئلة التي طرحها “الأستاذ” (عدنان أبو عودة) هو: ماذا فعلتم بالدولة؟!، وأعقبه – كما يرصد التقرير- بجملة من الأسئلة والتساؤلات عن الأسباب التي أدت إلى هذا النمو العشوائي في القطاع العام، والتجريف الكبير الذي حصل في المواقع الإدارية، بينما الطاقات الأردنية التي تمتاز بقدر كبير من الكفاءة والفعالية أو المهنية والفنية تمّ استقطابها في الخارج، وتقوم برفد مؤسسات الدول الأخرى.
بالضرورة من الظلم محاكمة التاريخ ومساءلته بأثر رجعي، من دون القراءة الدقيقة للشروط والظروف التي أدت إلى ما وصلنا إليه. مع ذلك فإنّ المطلوب اليوم ونحن نتحدث عن الاعتماد على الذات والتحولات في الموازنة والاقتصاد وإصلاح القطاع العام وجذب الاستثمار أن ننظر إلى ملف يكاد يكون مغيّباً في تفكيرنا، بالرغم من أنّه مفتاح رئيس لتحقيق كل ما ذُكر سابقا، وهو قيادات الإدارة العامة الأردنية، التي من المفترض أن تكون جزءاً رئيساً من عملية التجديد والتطوير في عملية إصلاح القطاع العام، وليس معوّقاً، كما هي الحال في كثير من الأوقات!
أحد أعمدة وأركان الدخول في مرحلة جديدة يكمن في شعار إصلاح القطاع العام وتطوير الإدارة العامة، ومعالجة الاختلالات، التي دبّت بهذا القطاع الكبير فجعلته كما وأنّه شيخ هرم، مصاب بأمراض مزمنة، مثل الترهل البيروقراطي، النفقات العالية، غياب معيار الكفاءة في السلّم الوظيفي، مؤخراً بروز ظواهر مقلقة مثل الرشوة والفساد الإداري، غياب الفعالية والتحفيز عن عمل هذا القطاع، تغلغل المحسوبية والواسطة، وتغلّب الجانب البيروقراطي على الجانب العملي والديناميكي..الخ.
مثل هذا التشخيص وحده بحاجة إلى خطّة عمل كبيرة متدرّجة، وذلك يقتضي تجاوز مفهوم “الحكومة الالكترونية” على أهميته إلى مفاهيم أوسع وأعرض، ومن ذلك إعادة النظر في واقع معهد الإدارة العامة وإعادة تأهيل المستويات القيادية العليا في الدولة، ومنح جيل الشباب مساحة أوسع في العمل والإنجاز، وإيجاد مداخل حقيقية لأفكار الإصلاح والتطوير والإصلاح.
تخلل المؤتمر نقاشات ساخنة بين بعض الوزراء ومدير ديوان الخدمة المدنية حول الديوان وسياسات التوظيف، وقدرة الديوان على توفير المخزون المطلوب، ومدى مواكبة سقف الرواتب في القطاع العام لتطلعات الجيل الجديد الذي يبحث عن فرص عمل ومصادر دخل ملائمة للحياة الجيّدة، وهو الأمر الذي يمكن أن يجد صيغة جديدة لدى المسؤولين من أجل استقطاب الطاقات والكفاءات، لكن مع توافر العدالة والمساواة في فرص العمل، وحق الجميع في المنافسة على الوظيفة أو الموقع المطروح.
في الخلاصة نحن بحاجة إلى “خريطة طريق” خاصة بالقطاع العام وتطويره وتأهيله، ليكون جزءاً من الحلّ لا المشكلة، وحماية سمعته الجيّدة التي اكتسبها في عقود سابقة مما أصابه من مشكلات في المرحلة الماضية، فالدولة المدنية وسيادة القانون مرتبطان بدرجة كبيرة بقطاع عام فعّال، محوكم، ومعايير ومفاهيم إدارية ترسّخ ذلك.