في البلاد الديمقراطية المتقدمة التي تؤمن حقا أن الشعب مصدر السلطات، من ابسط حقوق الناس سؤال الحكومة ومراقبتها والاستفسار منها وتقديم الاقتراحات لحل المشاكل التي تواجههم، إما عن طريق الاحتكاك المباشر او الصحافة او مجلس النواب. ويأخذ هذا الحوار والتمحيص للحكومة في هذه الدول دورا جادا للغاية، ولا ينظر له وكأنه ديكور شكلي لا يؤثر في النهاية على السياسات العامة، وانما كعنصر أساسي تدافع الحكومة عن طريقه عن سياساتها وتشرحها بشكل منتظم، وتشتبك إيجابيا مع الناس وممثليهم، وتجيب عن كل مقترح او سؤال بالحجة والمنطق والمعلومات. يحدث هذا في الدول التي تؤمن ان الحكومة خادمة للشعب وليس العكس.
لمأسسة هذا الحوار المنتظم مع الحكومة، يتم في البلاد المتقدمة عقد مؤتمر صحفي يومي للحكومة لاطلاع الناس على كل شاردة وواردة (في الولايات المتحدة عدة مؤتمرات يومية لوزارة الخارجية والدفاع والبيت الأبيض وغيرها). ويتم في هذه الموتمرات سؤال السلطة التنفيذية عن سياساتها ومناقشة هذه السياسات ومعارضتها او تمحيصها حتى تقدم الحكومة اجوبة مقنعة ليس فقط عن السياسات المعتمدة ولكن ايضا على كيفية الوصول اليها.
ممارسات السلطة التنفيذية في الاردن لا توحي بأن الحكومة معنية باطلاع الناس بشكل جدي على مواقفها او استعدادها لمناقشتها. ليس المطلوب مؤتمرا يوميا، ولكن المطلوب نهج جديد في الحوار يغير المفهوم الراسخ لدى المواطن ان هناك تجاهلا عاما يصل حد الاستهتار بكل ما يكتب او يقترح لمعالجة التحديات التي نعاني منها جميعا، والتي لا تقتصر على الحكومة فقط. اما النمط السائد الان فيقتصر في العديد من الحالات على اتهام الناس بالتنظير تارة (وقد جعلنا من التنظير تهمة كما فعلنا بمن يستند للارقام) او بعدم الاستناد على المعلومات الحقيقية، متناسية السلطة أنها هي من تحجب المعلومات في الدرجة الاولى.
المشكلة الرئيسية تتعلق بالإطار العام الذي يحكم عمل الدولة، فالشعب لا ينظر له كأنه مصدر السلطات، بل لا تذكر هذه العبارة صراحة في الدستور الاردني، وبالتالي ليس هناك اعتقاد متجذر لدى السلطة التنفيذية أن من حق الناس الاشتباك اليومي معها، ليس فقط من خلال سؤال مكتوب يتم إرساله عن طريق مجلس الأمة، ويتم الإجابة عنه بشكل ميكانيكي رتيب يعتمد أسلوب خير الكلام ما قل ودل، ولكن ايضا من خلال حوار جاد ومنتظم يشمل عشرات الأسئلة اليومية عن طريق الصحافة والمواطن العادي كما عن طريق مجلس الأمة. هذه هي الترجمة الحقيقية لمجتمع يريد التحول نحو الديمقراطية والاحترام الجاد لرأي الناس. ولا يعقل ان ننتقل مثلا من مؤتمر اسبوعي مع الصحافة قبل اكثر من عشرين عاما لمثل هذا الشح الواضح في المعلومة والاشتباك مع الرأي العام.
نحن أحوج ما نكون، ونحن نواجه أوضاعا اقتصادية في غاية الصعوبة، لحوار منتظم يعتمد صفتين متلازمتين، المصارحة والإصغاء. وقد أثبت الأردنيون والأردنيات عبر الزمن استعدادهم للتضحيات حتى في وضع اقتصادي خانق لم يعد يسمح بالمزيد، طالما شعروا ان لديهم تمثيلا حقيقيا في السلطة التشريعية، واحتراما بالفعل لا القول لدى السلطة التنفيذية. لقد قطعنا شوطا كبيرا في مجال التنمية لم يعد يسمح بإدارة البلاد بالطرق السابقة، ونحن بأشد الحاجة لتغيير الإطار العام الذي يحكم نظرتنا وطريقة تعاملنا مع الناس.
الازمة الاقتصادية الحالية الخانقة لن تحل بالاختفاء داخل غرف مغلقة، وصعوبة الحوار حول السياسات الحكومية لا تحل ايضا بغض النظر عنه. للمرة الألف، الدنيا تغيرت.