قبل أن تبدأ بتحليل ظاهرة أو قضية أو شخصية ما، يجب أولاً أن تضعها في سياقها الحقيقي كي يكون التحليل مطابقاً للموضوع، وإلا كان الموضوع في واد والتحليل في واد آخر. نقول هذا الكلام لأننا أخطأنا كثيراً في تحليل ظواهر كثيرة بناء على فرضيات خاطئة من أصلها. فقد كنا نعتقد لعقود أن هناك استبداداً ومستبدين وديكتاتورية وديكتاتوريين في عالمنا العربي، وبناء على هذا الطرح رحنا ندعو إلى الثورة على الطغاة والمستبدين في بلادنا، ظناً منا أن الطغيان ظاهرة عربية وإسلامية حصراً، وأن العرب والمسلمين قرروا الخروج على أقانيم العصر، وراحوا يحكمون شعوبهم بطريقة ديكتاتورية على طريقة الطواغيت.
كم كنا مغفلين وساذجين في طرحنا هذا! لقد اعتقدنا خطأً أن هناك استبداداً في بلادنا يجب استبداله بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن العائق الوحيد أمامنا هو الدول البوليسية القمعية والوحشية التي بناها هذا الحاكم العربي أو ذاك منذ عقود وعقود. ولطالما أعطينا هذا الحاكم أو ذاك أكبر من حجمه بكثير. ولا شك أن الكثير من هؤلاء الحكام الذين تعرضوا على مدى سنوات للهجوم والانتقاد بسبب بطشهم وقمعهم، لا شك أنهم كانوا يضحكون في سرهم علينا لأننا ظنناهم مستبدين وطغاة، بينما لم يكونوا كذلك مطلقاً.
الآن وبعد أن ذاب الثلج وبان المرج بعد الثورات العربية، وبعد أن انكشف المستور، تبين أن من كنا نعتقدهم طواغيت كانوا في الواقع مجرد طراطير وجلادين وأدوات قذرة ووكلاء صغار لقوى خارجية مقابل منافع معينة. كم أخطأنا في تشبيه الحكام العرب الذين بطشوا بشعوبهم على مدى العقود الماضية بستالين أو بهتلر أو غيرهما. لا شك أبداً أن هؤلاء الجلادين والجنرالات العرب الصغار الذين كنا نشبههم بسفاحين عالميين كبار كانوا سعداء جداً بانتقاداتنا وأوصافنا الخرافية التي كنا نغدقها عليهم زوراً وبهتاناً. لا ريب أبداً أن بعضهم كان ينتفخ فرحاً، وينفش ريشه عندما كان يسمع بعض المنتقدين وهم يشبهونه بهتلر أو جنكيز خان أو تيمور لنك، لأنهم في واقع الأمر لا يصلون إلى شسع نعل هؤلاء الطغاة الكبار، بل هم مجرد أجراء ونواطير صغار لا يملكون من أمرهم شيئاً.
شتان بين ستالين وأي حاكم عربي تشبه به. لماذا؟ لأن ستالين كان فعلاً طاغوتاً دموياً مجرماً، لكنه في الوقت نفسه، كان صاحب مشروع ورؤية، وكان، اختلفنا أو اتفقنا معه، قائداً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى رغم جرائمه الكبرى ودمويته وطغيانه السافر. لم يكن ستالين أداة صغيرة لا في يد الغرب ولا الشرق، بل كان قائداً رغم تعامله البربري أحياناً مع شعبه وجرائمه النكراء بحقه التي سجلها التاريخ. لقد كان ستالين رجلاً بغض النظر عن أفعاله وطريقة حكمه الهمجية. لم يفعل ما فعله نيابة عن هذه الجهة أو تلك، ولم يصل إلى السلطة أصلاً بأوامر ومباركة خارجية، ولا أحد يستطيع أن يتهمه بأنه مجرد طرطور أو أداة قذرة في أيدي الآخرين لتنفيذ مشاريع ومخططات خارجية في وطنه.
على العكس من ستالين وغيره من الطواغيت الحقيقيين، نرى أن غالبية الحكام العرب الذين تشبهوا به أو شبههم البعض به هم ليسوا طغاة ولا طواغيت بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل كانوا مجرد كلاب صيد حرفياً. ومن المعروف أن كلب الصيد يفعل الأفاعيل بالطرائد ليس لحسابه الخاص، بل لحساب الصياد. وكذلك الحكام العرب الذين كنا نظنهم طغاة. لا يمكن أن يكون الحاكم الذي وصل إلى السلطة بإيماءة خارجية وبضوء أخضر غربي، لا يمكن أن يكون قائداً وطنياً، ولا حتى طاغية، فالطاغية الحقيقي ينفذ مشاريعه الخاصة حتى لو كانت إجرامية، بينما الحاكم العربي ينفذ منذ وصوله إلى السلطة مشاريع خارجية في بلده، وهو أشبه بالسجان الذي يقهر السجناء ويعذبهم ليس بناء على رغبته الشخصية، بل تنفيذاً للمهام الموكلة إليه من أسياده ومديريه.
لقد أظهرت الثورات العربية أن الكثير من حكامنا مجرد وكلاء، بدليل أنه عندما فشل الوكيل في القضاء على الثورات، تدخل الكفيل الخارجي فوراً. وبالتالي فإن معركة الكثير من الشعوب العربية ليست مع الوكيل الداخلي بل مع الكفيل الخارجي. وصدق الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي عندما قال “مازلنا بعيدين عن الاستقلال الحقيقي ولا بد أن نناضل طويلاً كي نحقق الاستقلال الثاني”.