عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب – نعم يا فخامة الرئيس إن من تخاطبهم من الذين رابطوا في القدس وجوارها واكنافها ومعك في رام الله هم من أهل الرباط .. وها أنت تقرأ عليهم ” يا أيها الذين أمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون” ..
إنهم صابرون ومرابطون واختاروا أكناف بيت المقدس ليعقدوا مؤتمرهم مؤتمر التحدي فيها .. فالمكان مناسب يا سيدي كما قلت .. وعلى الذين أدمنوا أن يتحدثوا في الخارج بعيداً عن القدس وفلسطين ليأخذوا راحتهم ويعلوا من أصواتهم فإنهم كالتي “تتباهى بشعر جارتها” أو كمن يستعير الندابة أو ما يسمى في غزة “بالجناكي” لإحياء الأعراس!!
تقول لأصحابك الذين جاءوا لك من قراهم ومدنهم ومن إقامتهم الجبرية ومن السجون والمعتقلات التي أمضوا فيها سنوات طوال .. ومن طول المعاناة تقول لهم أن “الأنظار تتجه نحوكم وأنه مهما خذلوكم لن يضروكم لأن الربانية الإلهية تحميكم” ..
نعم لقد خذلوهم أكثر من مرة يا سيدي .. وها هي اللدغات في أصابعم لأنهم وضعوها في جحور من لدغوهم أكثر من مرة وما زال نفر من الشعب الفلسطيني يراهن على تلك الجحور فيلدغ ويعاود اللدغ كالذي “يحب خُنّاقه” أو كمن يذهب إلى مغارة الضبع مضبوعاً على قدميه!!
حين ضاق بك الواقع القائم أيها الرئيس وأردت تعريفه ورده إلى جذوره ومصادره ذهبت إلى التاريخ لتقرأ بعض صفحاته أمام رفاقك .. لتكون العبرة والتضحية والمنفعة .. تساءلنا هل صحيح أن التاريخ لا يعيد نفسه؟؟ وهل صحيح أن الليلة لا تشبه البارحة؟ أو أن اليوم لا يشبه الأمس؟ .. أنت يا فخامة الرئيس خير من تجيب .. لأنك أجبت على هذه الأسئلة في كتب كاملة بعضها ما زال لم ينشر ولم يرى النور لإعتبارات لا داعي لذكرها ..
الذاكرة الفلسطينية يا سيادة الرئيس لا تنسى لأن ما ارتكب بحق شعبها كان بشعاً ومأساوياً والذين لاموك لأنك تذكر وعد بلفور وتذكّر به وتطلب من المجرم الإعتذار عنه .. هؤلاء لا يدركون أن جرح بلفور ما زال حيّاً وما زال ينزف في مخيمات اللاجئين وفي المنافي التي وصلت إلى آلاسكا وشمال كندا .. وأن هذا الجرح الذي ما زال يؤلم، لن يشفى إلا بمسح آثاره وهو إنهاء الإحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة العتيدة التي تضمن حق تقرير المصير لشعب أنكره بلفور وحرمه من حقوقه السياسية والسيادية على أرضه .. حين أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق ..
أنت تؤمن يا سيادة الرئيس من خلال إصرارك أنه لا يضيع حق وراءه مطالب، فكيف لك أن لا تحاول أو أن تسكت وخلفك الملايين من أبناء شعبك الذين ما زالت جراح بلفور ماثلة في أجسادهم و مازالت أعراض وعده تفتك بمستقبل أجيالهم ..
إنك تعلم كمثقف وباحث وقارئ ومتابع أن قضية شعبنا سبقت جريمة بلفور وأن الأطماع الصهيونية في فلسطين قديمة وأن هذه الأطماع إرتدت أكثر من ثوب وإدعت أكثر من دعوة وحجة وطالبت بنصرة أكثر من غازِ ومستعمر وقد سردت ذلك بعلم ووعي حين تحدثت عن كرومويل بريطانيا وعن مستعمري هولندا وعن نابليون فرنسا وعن تشرتشل الجد والحفيد وعن كل الذين ورثوا وتعاقبوا على الفكرة الصهيونية التي اتخذت من اليهود وقوداً لاشعالها وإدامة شعلتها، وقد زرعها هرتزل وتعهدتها بريطانيا المستعمرة ليأتي الوريث ترامب بوعده ويجدد بعد قرن إنتهى لم يتوقف فيه الفلسطينيون عن نضالهم منذ وطأت أقدام المستعمرين الصهاينة أرض أول مستوطنة جوار نابلس في “بتاح تكفا” منذ منتصف ثمانينات القرن التاسع عشر أي عام (1882) ..
لقد سردت من الوقائع ما يضيء وتكفي إضاءته لمن يريد أن يعتبر وأن يدرك مخاطر الحركة الصهيونية التي لم يدركها استاذ الجيل في مصر آنذاك “أحمد لطفى السيد” الذي جلس إلى جانب صاحب الوعد “بلفور” في حفل إفتتاح الجامعة العبرية عام 1925 إلى أن أقتحم الحفل الشاعر الفلسطيني العربي المسيحي “إسكندر البيتجالي” (من بيت جالا جوار بيت لحم) بقصيدته الشهيرة التي ذكر فيها المضيف والضيف أحمد لطفي السيد بخطأ ما فعله بحضوره الحفل ومدى السخط الذي كان يعتمل في نفوس الفلسطينيين ضد المشاركة العربية في الحفل وضد قيام الجامعة العبرية على أرضهم..
” الله أكبر كل هذا …. في سبيل الجامعة
ما تلك جامعة العلوم …. بل المطامح جامعة
إن السياسة أوجدتها …. والسياسة خادعة
من لندن هرولت تضرم …. نار هذي الواقعة
يا لورد ما لومي عليك …. فأنت أصل الفاجعة
لومي على مصر تمد …. لنا كفاً صافعة
يا (سيد) قد جئتنا …. وقلوب قومك هالعة
وشهدت جامعة المطامع …. لا العلوم النافعة
أرأيت كيف تحيط العرب … الذئاب الجائعة
لو جاء هذي الأرض (أحمد) …. قبل يوم الجامعة
لرأى فلسطيناً تقيم له …. المحافل ساطعة
ولهرولت من كل حدب …. للقاء مسارعة
نشكو لكم منكم بني مصر … ظروف الواقعة
أوهمتم الأعداء إنا …. أمة متقاطعة
لا تشمتوا أمماً غدت فينا … وفيكم طامعة
وخطأ التطبيع هذا ما زال يكرره بعض العرب بعد مائة سنة ممن لم يدركوا مخاطر التطبيع المجاني!!
نعم يا سيادة الرئيس .. هرتزل في مشروعه الصهيوني الذي عبر عنه في كتابه “المسألة اليهودية أو دولة اليهود” كما ذكرت، اعتمد على بُعدين .. بُعد شراء الأراضي الفلسطينية من خلال المنظمة التي دعى لإنشائها وأسسها “الكيرت كايمت” وبعد تمويل هذا الشراء من خلال تأسيس صندوق يتعلق بنقل اليهود إلى فلسطين .. وهو بذلك وضع للفكرة جسداً ووضع للجسد أرجلاً يمشي عليها فكان المشروع الصهيوني الذي ولد إسرائيل التي وضعت في الحاضنة الدولية من المربية بريطانيا وظلت تنتقل بإختلاف العناية إلى حواضن عالمية غربية أهمها الحاضنة الأميركية الآن .. ومن هنا كانت الفكرة التي سوقها هرتزل عن الأرض التي بلا سكان وهي فلسطين للسكان الذين لا أرض لهم وهم اليهود المضللون من الصهيونية والتي تواطأت مع دول عديدة لإضطهادهم حتى يكونوا جاهزين للهجرة إلى فلسطين كحالة خلاص لهم ..
وهذه القضية كتب عنها الرئيس عباس بعملية وتوسع سواء في البعد المتعلق باقتلاع اليهود والعرب من بلدانهم في العراق واليمن والمغرب ومصر وغيرها وترحيلهم إلى فلسطين أو في بعد تحالف النازية التي ذبحت اليهود مع الصهيونية التي استغلت المذابح ..
البعض يعتقد أن أميركا لا علاقة لها بوعد بلفور وأنه أي الوعد كان في وقت مبكر عام 1917 عن تدخلها في المنطقة أو اهتمامها بها وهذا الأمر ليس صحيحاً .. فالولايات المتحدة كانت معنية بكل حرف في الوعد كما يذكر الرئيس أبو مازن “كانت أميركا مع الحكومة البريطانية في كل كلمة وكل خطوة فيه وأميركا هي التي أصرت ولم تكن عضواً في عصبة الأمم” ..
الفلسطينيون لم يسكتوا منذ الوعد بل فضحوه .. وقد فضحه قائد الثورة البلشفية لينين حين كتب عنه وأعلن وكذلك فضح الفلسطينيون قرارات المؤتمر الأول للحركة الصهيونية الذي أقامه هيرتزل وكتب عن ذلك صاحب صحيفة الكرمل الفلسطينية نجيب نصار في نفس العام 1897 وعنه أخذت جريدة الأهرام في أول ذكر للحركة الصهيونية ومؤتمرها الأول وكان ما ذكرته الأهرام قد جاء في عام 1901 أي بعد ثلاث سنوات من إنعقاد ذلك المؤتمر ..
الفلسطينيون كانوا يقظين .. ومقاومين في إنتفاضات متعاقبة سردها الرئيس عباس منذ ثورة 1921 على أثر الإنتداب البريطاني وإعلان وعد بلفور وعام 1929 في ثورة البراق ثم ثورة 1936 في أطول إضراب في التاريخ إستمر لستة أشهر قبل أن يتدخل العرب للضغط من أجل إنهائه تحت شعار “ضرورة الإخلاد إلى حسن نوايا الصديقة بريطانيا” وبدل أن يكون النظام العربي آنذاك إضافة إيجابية للكفاح الفلسطيني .. كان عكس ذلك فقد استعمل للضغط على الفلسطينيين وترويضهم وهو الدور الذي ما زال مستمراً حتى خطاب أبو مازن في المجلس المركزي الآن، ولن يتراجع هذا الدور الوظيفي للنظام العربي على المدى المنظور بل ربما يزداد إتساعاً وخطورة ما لم تنهض جماهير الأمة بدورها وواجبها ..
وتكررت المشاريع التي سرد معظمها الرئيس عباس في كلمته في المجلس المركزي .. وجاء قرار التقسيم الفلسطيني عام 1947 وقامت الدولة الإسرائيلية التي إشترط لقيامها إقامة دولة فلسطينية .. ولكن دولة إسرائيل قامت والدولة الفلسطينية لم تقم بتآمر إسرائيلي صهيوني غربي .. ومع ذلك كله فقد إعترفت الولايات المتحدة كما الإتحاد السوفيتي آنذاك بالدولة الفلسطينية ولم يعترف الرئيس الأميركي آنذاك “ترومان” بدولة يهودية إذ قام بشطب تعبير الدولة اليهودية بقلمه عن الإقتراح المقدم له من الحركة الصهيونية وأستبدل صفة اليهودية بصفة الإسرائيلية ..
إذن لماذا يهودية؟ .. سؤال طرحه أبو مازن وقال “الحدق يفهم” فمن هو الحدق؟ وكيف يفهم؟ وهل يحتاج الأمر إلى حدق ليفهم؟ أم أن الحدق وغيره سيدرك أن الموضوع يتعلق بتصفية كل موروث القضية الفلسطينية وأساس إدعائها وتصفية مكوناتها واستحقاقاتها وأبرزها قضية اللاجئين الفلسطينيين وما يعنيه ذلك من حقوق .. سواء حق العودة وكذلك التعويض وقرارات اخرى؟؟
ويتسلسل الرئيس في سرده التاريخي لمحطات كفاح الشعب الفلسطيني وكيف جرى التعامل العربي مع القضية الفلسطينية في نموذج حكومة عموم فلسطين التي أقامت بداية في غزة قبل أن ترحل إلى مصر وكذلك فترة الراحل أحمد الشقيري الذي كان سفيراً للجامعة العربية لدى القضية الفلسطينية قبل أن يصبح سفيراً للقضية لدى العرب .. وكيف جرى التعامل معه والخلاص منه رغم أن بداية صناعة المنظمة وقيادتها كان صناعة عربية لعوامل تتعلق بمصالح النظام العربي ومصالحه قبل أن يكون إنتصاراً للقضية الفلسطينية ..
ثم جاء الراحل يحيى حموده لفترة قصيرة قبل أن يأتي إلى قيادة المنظمة وفتح وحركة النضال الفلسطينية ياسر عرفات والذي قال “نحن أصحاب القضية ولا يحق لأحد أن يتكلم بإسم الشعب الفلسطيني سوى المنظمة” وكان هذا أخطر قرار في تاريخ الشعب الفلسطيني ..
وفي وصف إقالة الشقيري أو طرده عربياً قلت يا سيادة الرئيس كاشفاً جوانب من تلك المرحلة “أبعدوا أحمد الشقيري الذي لم يكن على قد الخاطر وعلى قد اليد ومن لا يأتي على قد اليد يذهب” كنت تقرأ الماضي واللحظة القائمة وأنت تعيش ضغط النظام العربي والإقليمي في اكثر من موقع .. سبق أن عكسته قيادة الشعب الفلسطيني ولنفس السبب التي حاول النظام العربي العمل على التدخل في القرار الفلسطيني المستقل أو تغيير القيادة الفلسطينية بما يتناسب والضغوط على ذلك النظام العربي ..
ويكشف أبو مازن عن دوافع النظام العربي الأساسية لإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية ويفهم من ذلك أنه ليس رغبة في تمكين الفلسطينيين من النضال أو تحرير وطنهم أو لسواد عيونهم، بقدر ما هو عمل لأحتواء الحالة الفلسطينية وارهاصاتها اللاحقة وتوجهاتها بداية .. وهذا ما حدث قبل أن يفلت زمام الأمور من النظام العربي حين أكد الرئيس الراحل ياسر عرفات إستقلالية القرار الفلسطيني .. وربما دفع الثمن لاحقاً وهو ما يفعله الرئيس عباس الآن والذي يجري محاصرته ومحاولة إحتوائه بأشكال متعددة بصناعة قيادة بديلة في مختبرات عربية وخارجية وبضغط خارجي وعربي يصب لصالح إسرائيل وحروبها بالوكالة على الشعب الفلسطيني ..
ويروي الرئيس عباس قصة الخروج إلى تونس وهي ليست رحلة الهلاليين الأولى من بلاد الشام والجزيرة إلى هناك وليست تغريبة الزير سالم وإنما قصة إستشهاد أبو جهاد قائد الإنتفاضة الأولى ومهندسها وقصة قتل القادة الفلسطينيين الثلاثة وعلى رأسهم أبو إياد كما لو كانت رحلة الفلسطينيين رحلة صيد في السفاري لينفرد بهم الإغتيال الإسرائيلي في أوطان “مخردقة” لم تحمهم ولم تحاول أن تحمهم ..
لقد تدرب الفلسطينيون على القرار المستقل منذ البداية، وضحوا في سبيل ذلك لإنهم يدركون أن هذا القرار هو الحصان الذي سيقود العربة الفلسطينية والتي لا يجوز أن توضع أمام الحصان أو أن تقاد من أطراف أخرى لن تصل بها إلى بر الأمان ولن توفر لها الحرية والإستقلال .. ومن هنا جاء تأكيد الرئيس عباس بقوله “لدينا شعاران.. الأول عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية .. ولا نقبل أحد أن يتدخل في شؤوننا رغم أن القضية قومية وأكبر منا ولكن نحن أصحاب القرار الأول في القضية الفلسطينية” .. وتعود اللحظة القاسية من التدخل تمثل أمام نظر أبو مازن وتمر في خاطره فيخرج عن النص أو يقلبه ويقول “لا نريد أحد أن يتدخل بنا ويلعب من تحت” وكأني به يصرخ ليقول “حلو عنا” .. غداً أكمل
احمد الشقيري اول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية