بعد مرور اكثر من اسبوع على انفجار الغضب في نحو سبعين مدينة وبلدة في مختلف انحاء ايران، دون سابق انذار، لم يعد السؤال المطروح بإلحاح شديد؛ ما الذي يحدث في الجمهورية الاسلامية الهائجة منذ اربعة عقود، وانما الى اين تتجه هذه الاحتجاجات العفوية المتواصلة بوتيرة متصاعدة؟. هل نحن امام انتفاضة شعبية معرضة للوأد مع مرور الوقت واشتداد حدة القمع، ام نحن قبالة موجة ثورية جديدة غير قابلة للاحتواء، تنذر بتحولات عميقة الغور قد تطيح بنظام الولي الفقيه، وتعيد تظهير صورة هذا البلد الذي صنع احدى اهم ثورات القرن العشرين؟.
قبل اقل من اسبوعين ما كان لأحد منا ان يجازف بطرح هذا السؤال الذي لا محل له في الواقع، ولا داعي له ايضاً، حين كانت ايران تبدو في نظر الجميع كقلعة حصينة، وكان خطابها السياسي، واداؤها العسكري، في حالة هجوم متواصل وناجح، فيما كان خصومها واعداؤها في حيرة من امرهم، ازاء كيفية كبح جماح الميليشيات المذهبية المتغلغلة في المحيط المجاور، وايجاد انجع السبل لإيقاف تمدد المشروع الامبراطوري الفارسي، وفجأة ينقلب السحر على الساحر، واذا بالقلعة العصية على الاقتحام الخارجي تؤخذ بسهولة نسبية من الداخل.
ولولا كاميرات الهاتف المحمول، وثورة الاتصالات الرقمية، لما صدق احد بيننا ان هناك في طهران واصفهان وغيرهما في البر الايراني، من احرق صور الامام والمرشد والرئيس والجنرال (سليماني) والامين العام، وهتف بسقوط الدكتاتور، وتحدى منظومة الحرس الثوري، في مشاهد اعادت للذاكرة مشاهد مماثلة غمرت شاشات التلفزيون قبل نحو سبع سنوات، حين كسر السوريون حاجز الخوف في جمهورية الصمت، واحرقوا صور وتماثيل الاسد الاب والابن، وصنعوا بدمائهم الغزيرة ثورة الحرية والكرامة، المستمرة بين مد وجزر حتى اليوم.
ليس في وسع اي منا القول في هذه اللحظة؛ ان الاحتجاجات المستمرة، قد بلغت نقطة اللاعودة، او ان الشعوب الايرانية هي الآن بصدد احداث ثورة شعبية ثانية، على غرار ثورة الخميني، التي سرقتها الفاشية الدينية من بين ايدي الليبراليين واليساريين والوطنيين، غير انه اذا ما قيّض لهذه الاحتجاجات، التي اجتازت المطالب المعيشية الى الشعارات السياسية بسرعة قياسية، ان تصنع قياداتها الميدانية (التنسيقيات) وان تمتلك خطاباً بديلاً، وان تجدد زخمها رغم القمع والاتهام لها بالعمالة، فإن وجه الشرق الاوسط سيتغير، وان ايران بعد هذه الموجة العارمة لن تكون كما قبلها.
ذلك ان هذه الاحتجاجات المفتوحة على كل الاحتمالات، كشفت لنا حقيقة ان ايران مجرد نمر من ورق، اخذتنا بالصوت العالي، بالتهويل والمبالغات، وبالتبجح والشعارات الخادعة، وان ما حققه آيات الله من مكاسب في جوارهم الواسع، كان ناجماً عن عجز هذا الجوار وضعفه، عن خوفه وتهافته، وليس عن صلابة عود دولة تجوع فيها الملايين، يسودها الفساد والاستبداد، ويستوطن فيها الفقر والظلم، وهي مظاهر ضعف نجحت ماكينة الاعلام الايرانية في حجبها عن الانظار، بل وفي استبدالها بمظاهر معاكسة، انطلت على عقول الكثيرين في العالم الاسلامي.
لا نود الاحتفال قبل الأوان بقرب غروب شمس الدولة التي استباحت اراضي الجوار، وزعزعت الامن والاستقرار، وعاثت خراباً في المشرق العربي على وجه الخصوص، ولا نود ايضاً ان يتشابه صوتنا مع اصوات دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو وغيرهما من المهللين لهذه الاحتجاجات التلقائية النابعة من ضمير ايراني عميق، غير انه لا يمكن لنا بالمقابل ان نتماهى مع “الشبيحة” في الاعلام العربي وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، ممن راحوا يسخفون هذا الحراك على الفور، ويرمونه بذات التهم الجاهزة، وينسبونه الى المؤامرة الكونية اللعينة.
والى ان تقطع جهيزة قول كل خطيب، وتحدث نقطة الانعطاف المأمولة في مجرى هذا الحدث الذي يخاطب الجميع في الشرق والغرب، سوف نعتصم بالرجاء في ان تعود ايران دولة طبيعية، تهتم بنفسها اكثر، تنفق مقدراتها الطائلة على شعبها المحروم من عوائد ثرواته الهائلة، بدل ان تبذرها على ميليشياتها في سورية والعراق ولبنان واليمن، وتواصل حلمها المستحيل باستعادة امجاد امبراطورية غابرة، لتتجنب بذلك تلك الاخطاء المميتة، التي وقع فيها اصحاب كل المشاريع التوسعية، بما في ذلك دول استعمارية غنية وقوية.