عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب/ “ترامب .. كالمجنون الذي رمى حجر في بئر يحتاج الآن للعالم لكي يرفعه” .. أما أبو مازن فقد رمى حجراً في البركة الراكدة، وأشعل الشمعة في نفق الأمة الذي جرى السكوت على تعتيمه .. هل نقول “بق أبو مازن البحصة” ولم يعد يتذرع أن في فمه ماء؟؟ حين تحدث عن أرهاب الإدارة الأميركية وإبتزازها المستمر للقيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني بإقدامها على تقديم القدس الفلسطينية العربية المسلمة والمسيحية لأعداء الأمة .. وعن إرهاب الدولة الأسرائيلية بممارساتها المستمرة من تهويد للقدس ومن إستمرار في الإستيطان ومن تكريس وممارسة لنظام الأبارتهايد العنصري وانتهاك بشع لحقوق الإنسان بقتل الفلسطينيين بدم بارد حيث المفاخرة بالاحتلال وتكريسه وإنكار حقوق أهل فلسطين ..
كان خطاب الرئيس أبو مازن أمام القمة واضحاً، وضع النقاط على الحروف، شجاعاً كشف عن المعطيات التي مارستها الإدارة الأميركية للوصول إلى هذه اللحظة المشؤومة وترك للمراقبين أن يقرأوا ما بين السطور بربط دال على الحقائق وكاشفاً كثيراً من الزوايا ..
لم يقل أبو مازن كلمته ويمشي كما يفعل الكثيرون من قادة الأمة والمحسوبين في زعاماتها، بل أعرب الجملة الفلسطينية وبنى منها موقفاً لا يزايد عليه فيه أحد، ولا يمكن أن يتجاوزه .. حين جعل من القدس خطاً أحمر مرسوماً بدم الفلسطينيين وكفاحهم وصمودهم وحين قام بتعبئة شعبه لمقاومة شعبية نضالية مستمرة تستعمل الأدوات اللائقة وتجترح وسائل عديدة ظل الشعب الفلسطيني ينفرد بها منذ إنتفاضة الحجر التي رصفت الطريق لعودة الفلسطيني ليزرع بذرة قيادته في فلسطين ..
أعاد الرئيس في خطابه تأصيل الخطاب الفلسطيني المتعلق بقضية الصراع على فلسطين، رابطاً بالجذور ومقارناً وعد بلفور عام 1917 بمحاولة اعادة إنتاج هذا الوعد من خلال وعد ترامب ومضيئاً مساحات لا يدركها إلا الباحث المثقف وقد أنزل هذا الإدراك على وعي القيادات السياسية العربية والإسلامية التي لا يتمتع خطابها بعمق تاريخي وقد ظل أسير المانشيت الإعلامي..
كان لدى الرئيس محمود عباس إدراك مسبق بأن جهوده المخلصة والحثيثة باتجاه المجتمع الدولي بوسائل سياسية ودبلوماسية صبورة قد أتى أكله، وحان حصاده وإلا لما وقفت هذه الدول التي ظل بعضها لا يعترف بالدور والجهد الفلسطيني بل ويضع العقبات والعصي في دواليب ذلك الدور .. وها هي هذه الدول تعاود إنتاج دورها لتقترب وتقر بدور فلسطيني جرى بناؤه بالمشاركة الدولية والبناء عليها .. وهذا ما دفع الرئيس أبو مازن للقول “إن العالم أجمع ولأول مرة في التاريخ يقف وقفة واحدة من الشرق والغرب ضد قرار ترامب”، وحتى تلك الدول التي تعودت الوقوف إلى جانب أميركا مثل كندا وبريطانيا وأستراليا ومع ذلك كله يُرد الإستشهاد القاطع من الذكر الحكيم ” والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون” ..
لقد أصاب الشعب الفلسطيني بغي بريطانيا قديماً وبغي الولايات المتحدة حديثاً، ومع ذلك كله ومع تدمير مقدرات الشعب الفلسطيني وإقتلاعه من وطنه عام 1948 وتبديده إلا أنه ظل مؤمناً بقضيته صامداً مكافحاً آخذاً بمقولة صاحب رواية الشيخ والبحر إرنست همنجواي “الإنسان قد يدمر ولكنه لا يهزم” نعم دمّر شعبنا ولكنه لم يهزم، والوقائع على ذلك لا حصر لها، وها هي تتمثل في هذا الصمود الأسطوري وهذه المقاومة السلمية الرائعة والعطاء الذي لا حدود له وفي الإلتفاف المتجدد حول القيادة الفلسطينية الشرعية التي إلتقطت اللحظة التاريخية الفارقة وبنت عليها ورفعت شعار عروبة القدس ومضت ترد على كل مشكك ومتآمر ومخطط وظالم .. لقد إنتصر شعبنا على الفناء ورفع راية الحياة والحرية فهو يضحي من أجل حياة حرة كريمة وليس من أجل الموت ولذا فإنه سينتصر بعد ظلم، ولن يكون عليه ملامة، وإنما الإدانة واللوم والعقوبة على الذين يظلمون ويبغون ..
ولأنه القائد الذي يستلهم نضال شعبه ويحول الكفاح إلى حقائق ماثلة لمزيد من المكاسب لشعب عانى فإن أبو مازن يبشر شعبه بالنصر وإنتهاء الظلم مؤكداً في خطابه “نحن سننتصر بإذن الله وسننهي هذا الظلم الذي وقع علينا جميعاً الفلسطينيين العرب، المسيحيين، المسلمين، الاحرار في كل إتحاد العالم”.
خطاب الرئيس في نصه المكتوب وحواشيه الإضافية والكلام المضاف إليه إرتجالاً والذي أعطاه نكهة وصلابة وإضاءة وتوهج شكل أمام الدول إل (47) الرؤية الفلسطينية المبصرة والشريكة والتي تحترم التزاماتها المبدئية المنبثقة عن الشرعية الدولية التي طعنها ترامب وإنقلب عليها واحدث سابقة تاريخية جعل العالم يتوجس خيفة من افعاله التي قد تنسحب على قرارات الشرعية الدولية وعلى إطلاقها لتحدث خللاً وزلزلة للإستقرار والسلم الدولي وهذا ما أدركه كثير من الأميركيين رسميين وغير رسميين وكثير من دول العالم التي تنادت لرفض موقف ترامب، لا لسواد عيون الفلسطينيين أو عدالة قضيتهم فقط، وإنما لهذا الدافع الذي ذكرته والذي يمس قرارات الشرعية الدولية .. وينقلب عليها ويعطي ما لا يملك لمن لا يستحق ..
الرئيس أبو مازن منسجم مع نفسه ومع نهجه ولذا جاء للتأكيد في يوم الأمتحان القاسي ليقول وهو يجني حصاد ما زرع ” إننا هنا اليوم ومن خلفنا كل أمتنا وشعوبنا وجميع المسلمين والمسيحيين في منطقتنا والعالم من أجل إنقاذ مدينة القدس الشريف وحمايتها” ..
وفي سياق الثوابت الفلسطينية والإستقواء بالموقف الدولي النزيه جاء تأكيد الرئيس أبو مازن “إن القدس كانت ولا زالت وستظل إلى الأبد عاصمة دولة فلسطين وهي درة التاج .. ويضيف الرئيس خارج النص المكتوب “وهي زهرة المدائن وهي أرض الإسراء والمعراج التي لا سلام ولا إستقرار دون أن تكون كذلك”.
كان كل ذلك من الرئيس قبل أن يبدأ البسملة في الخطاب والتي جاءت على شكل تحية للرئيس التركي الذي تميزت مواقفه بالوضوح والريادة والمبادرة ورفع القدس حيث يجب أن ترتفع في مكانتها وهي المنزلة التي كنا كعرب نتمنى أن تنزلها بعض الأنظمة العربية المنزلة التي أنزلها إياها أردوغان..
ويرى أبو مازن أن ما اقترفه ترامب خطيئة كبرى .. بل جريمة كبرى تضع تحديات وتفرض تحديات لا بد من الرد عليها والأرتقاء لمستوى خطورتها وحتى تحمى القدس ويُدافع عن هويتها وطابعها ومقدساتها الإسلامية والمسيحية .. وإلى أن ينتهي الإحتلال الاسرائيلي لإرض دولة فلسطين كافة وفي مقدمتها القدس ..
وإذا كان هناك من يستحق تحية الرئيس أبو مازن بداية فإنه شعبه المرابط في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس ومن بين شعبه خص المقدسيين الذين يتحملون أذى المستوطنين وبطش الإحتلال، وقد سرد في كلمته جملة من الإجراءات الاحتلالية التي تمارسها سلطة الاحتلال على المقدسيين في كل مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى الدينية .. ويقدم الرئيس نموذجاً من مقاومة المقدسين مذكراً مستمعيه بهبتهم في وجه الخطوة الإسرائيلية العدوانية الآثمة حين أقبلت سلطات الاحتلال على بناء البوابات الالكترونية ونصب الكاميرات عليها لفرض الرقابة على القدس وتسجيل دخول المستوطنيين ومراقبة حركة المعتصمين والمرابطين داخل المسجد الأقصى .. وقد أسقط الفلسطينيون بمقاومتهم وإرادتهم وإصرارهم تلك الإجراءات وأبطلوها وجعلوا إسرائيل تتراجع أمام إرادة الشعب الفلسطيني في القدس، وهو الأمر الذي لم تقو عليه أنظمة عربية كان موقفها باهتاً أو غير مسلح بإرادة عملية حتى وأن إنتسب الكثيرون للفعل الفلسطيني أو أرادوا الإستظلال به أو إدعاء الحكمة فيه بأثر رجعي.
كان الرئيس أبو مازن يتحدث إلى حماة المسجد الأقصى مباشرة وينظر إليهم عبر الكاميرات ويشير بيديه “إننا كلنا سنظل معاً وسوياً للدفاع عن القدس” وأضاف من النص وهو يخاطبهم بالقول “سنبقى ثابتين في وجه المؤامرات التي تستهدف مدينتنا وعاصمة دولتنا وبدعم من أشقائنا وأصدقائنا إلى أن نحقق حريتنا وإستقلالنا”.
إذن وهذا ما اكده الرئيس من أن إعلان ترامب هو “إنتهاك صارخ للقانون الدولي والإتفاقيات الموقعة وبخاصة قرارات مجلس الأمن قالها بلا مواربة أو مجاملة” وكان قد قال مثل ذلك حين تعرض وجود القدس عربية للخطر في كامب ديفيد حين ضغطت قوى الشر الأميركية وبدفع إسرائيل على الرئيس عرفات ليسلم بمخططاتهم ليقول “إذن إمشو في جنازتي” وهو التعبير الذي لحق إعلان أبو مازن للرئيس عرفات “إياك إياك” وقيل أنه نصحه أن لا يعتمد على الآخرين من عرب وعجم ساعة الامتحان وساعة انتظار الاجابة وأن عليه أن يحسم بالقول القدس الشرقية عاصمة دولة فلسطين الأبدية .. يومها كان التأخر عن حزم الحقائب للرحيل مضيعة للوقت وهذا ما ظل أبو مازن يشهره من موقف في وجه كل المشككين والقعدة المرتابين والذين في نفوسهم مرض أو أحقاد ممن قالوا “إذهب أنت وربك” أو “ممن شغلتهم أموالهم وأنفسهم” أو “ظلوا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم” وقعدوا عن نصرة القدس وأهلها وكانوا من أهل الشقاق والنفاق أو كانوا كالذين حاولوا أن يثنوا المعتصم عن انتصاره للمرأة المسبية بوضع كل أسباب الذرائع لينصرف عن سماع صوتها .. أو ممن قال عنهم المتنبي ممن يعتقدون “أن العجز هو عين العقل بقوله “يرى الجبناء أن العجز عقل”.
إذن نقل السفارة الأميركية إلى القدس هو عند أبو مازن “استفزاز للمجتمع الدولي الذي تميّز عن الموقف الأميركي بما عبرت عنه دوله وشعوبه وقياداته السياسية، والروحية ومنظماته الإقليمية والدولية وهي ترفض هذا الإعلان وتتضامن مع الشعب الفلسطيني وطموحاته في الحرية والإستقلال” ..
لماذا هذه الصدمة الأميركية بخصوص القدس؟ ويتسائل الرئيس أبو مازن .. ويجيب، “ألم نكن منخرطين في العملية السلمية من أجل الوصول لسلام عادل وشامل في المنطقة؟؟ ألم يقولوا لنا أنهم يعدون صفقة القرن؟؟ .. فلماذا قدموا لنا صفعة العصر ؟؟ .. أليس هذا إستخفاف بمشاعر شعوب منطقتنا والعالم ومجلس الأمن والقانون الدولي ؟؟ ..
ويمحص أبو مازن المواقف ويقرأها على ضوء مصالح شعبه وثوابت الموقف الفلسطيني ويخرج بنتيجة واضحة يعلنها على الملأ دون مماطلة أو تأجيل “إن الولايات المتحدة الأميركية قد أختارت أن تفقد أهليتها كوسيط وأن لا يكون لها دور في العملية السياسية” ..
نعم لقد خاب أمل أبو مازن في الإدارة الأميركية وفي الوساطة الأميركية وفي السياسة الأميركية حين رأى إنحيازها الأعمى لإسرائيل وموقفها الإسرائيلي والذي يمكن القول فيه انها “ملكية أكثر من الملك” ..
موقف أبو مازن أشبهه بموقف أمرؤ القيس حين قتل أبوه ليخرج طالباً بدمه ومتمثلاً قول الشاعر “نحاول مُلكاً أو نموت فنُعذرا” وهو أشبه بموقف شاعر قبيلة بنو عبد القيس التي كانت شرق الجزيرة العربية وقد أجتمعت عليها القبائل في عدوان ظالم فخرج شاعرها المثقّب العبدي ليخاطب حينها بشجاعة أبرز القوى العالمية آنذاك قوى الفرس وممثلهم ملك المناذرة التابع لهم حين طلب من هذا الأخير أن يحدد موقفه من العدوان الواقع على قبيلته .. وقد قال الشاعر في رسالته لتلك القوى والمتآمرة ولزعيمها المسمى عمرو بن هند ممثل الفرس ..
إلى عمروٍ، ومنْ عمروٍ أتتني ….. أخى النَّجداتِ والحلمِ الرَّصينِ
فإمَّا أنْ تكونَ أخى بحقِّ …. فأَعرِفَ منكَ غَثِّي من سَميني
وإلاَّ فاطَّرحني واتخذنى …. عَدُوّاً أَتَّقيكَ وتَتَّقيني
وما أَدري إذا يَمَّمتُ وَجهاً … أُريدُ الخَيرَ أَيُّهُما يَليني
أَأَلخَيرُ الذي أنا أَبْتَغيهِ … أَمِ الشَّرُّ الذي هو يَبْتَغيني
أليس موقف أبو مازن في مخاطبة الإدارة الأميركية التي تدعم العدوان الإسرائيلي على شعبه شبيه بموقف “المثقب العبدي” بقوله “وإلا فاطرحني واتخذني عدواً” وقوله “وما أدري إذا يمّمت وجهاً” أليس هذا من قبيل قول أبو مازن “أن الإدارة الأميركية لم تعد محايدة ولا تصلح أن تكون وسيطاً” .. وقد بيّن أن هذه الإدارة منحازة كل الإنحياز لإسرائيل .. “هذا هو موقفنا ونتمنى ونتأمل أن تؤيدونا في ذلك”..
ما زال بنو عبد القيس يفتخرون بالمعبّر عن موقفهم وهو الموقف الذي قلّ نظيره في تحديد المواقف بوضوح حين طلب النصرة بكبرياء ضد عدو طالبه أن يحدد موقفه “فإما أن تكون أخي بحق .. فأعرف منك غَثّي من سَميني” .. وهذا ما قصده أبو مازن اليوم وهو يخاطب الإدارة الأميركية المنحازة ويُشّهر بموقفها بشجاعة ..
البقية غداً ..
غداً نكمل ..