أطلت منذ أيام الذكرى السنوية لحدثين تحكما في مصير المنطقة العربية: اتفاقية سايكس- بيكو، التي تمّ بموجبها اتفاق بريطانيا وفرنسا على تقسيم النفوذ بينهما في منطقة «الهلال الخصيب»، والنكبة التي حوّلت الفلسطينيين إلى شعب من اللاجئين. ولأن النكبة الفلسطينية لم تكن حدثاً منفصلاً قائماً بذاته وإنما تعد إحدى نتائج اتفاقية سايكس- بيكو، فإن فهم ما حصل ويحصل للعالم العربي منذ بدايات القرن الماضي يتطلب قراءة جديدة لثلاثة ملفات بريطانية، مترابطة عضوياً، عكست الأهداف والمصالح التي سعت بريطانيا إلى تحقيقها مع قوى عالمية وإقليمية متنوعة مستغلة ظروف وملابسات اندلاع الحرب العالمية الأولى، والوسائل والآليات التي استخدمتها لتحقيقها:
1- ملف سياسة بريطانيا تجاه الحركة القومية العربية البازغة. ولأن هذه الحركة، التي بدأت في نهاية القرن التاسع عشر، استهدفت فصل العالم العربي عن الإمبراطورية العثمانية والعمل على تحقيق طموح الشعوب العربية في الاستقلال والوحدة، كان طبيعياً أن تسعى بريطانيا إلى استمالتها إلى جانبها أثناء الحرب، أملاً بإرباك تركيا وفتح جبهات عسكرية جديدة في مواجهتها. وعكست المراسلات المتبادلة من 14 تموز (يوليو) 1915 وحتى 30 كانون الثاني (يناير) 1916 بين الشريف حسين بن علي والسير آرثر هنري مكماهون، المندوب السامي البريطاني في القاهرة، الطريقة التي تعاملت بها بريطانيا مع هذا الملف. ومن المعروف أن هذه المراسلات بدأت بمجرد نجاح الشريف حسين، الذي كان يسعى إلى تأسيس دولة عربية كبرى برئاسته في المشرق العربي، في عقد اتفاق مع القوى القومية في سورية لمساعدته في إشعال ثورة عربية ضد الحكم التركي، وهو الهدف ذاته الذي كانت تسعى بريطانيا إلى تحقيقه. وتضمنت أولى رسائل الشريف حسين إلى مكماهون مقترحات محددة في شأن حدود الدولة العربية التي يطمح إلى تأسيسها، مطالباً بريطانيا بالموافقة على تنصيب خليفة عربي للمسلمين. وردّ عليه مكماهون مؤكداً موافقة بريطانيا على أن يكون الخليفة عربياً، لكنه طلب إرجاء البحث في مسألة الحدود المقترحة للدولة، بحجة أنه موضوع سابق لأوانه، ما ترك انطباعاً سيئاً لدى الشريف حسين حاولت الرسائل التالية إزالته. واختتمت هذه المراسلات برسالة من مكماهون في 10 آذار (مارس) 1916، ضمّنها موافقة بريطانيا على مطالب الشريف حسين، بعد موافقة الأخير على استبعاد محمية عدن ومرسين وجنوب العراق وحمص، مع احتفاظه بالحق في المطالبة بها بعد انتهاء الحرب.
2- ملف السياسة البريطانية تجاه الحركة الصهيونية التي تأسست في مؤتمر بازل عام 1897 واستهدفت إقامة دولة يهودية في فلسطين. وتعكس أوراق هذا الملف حصيلة تفاعلات دولية وإقليمية ومحلية بريطانية، انتهت بإقدام بريطانيا على إصدار «وعد» تعهدت بموجبه تقديم الدعم اللازم للجهود الرامية إلى إقامة «وطن قومي لليهود في فلسطين» (وعد بلفور الصادر في 2 تشرين الثاني – نوفمبر 1917).
3- ملف السياسة البريطانية تجاه القوى الأوروبية المتحالفة مع بريطانيا في الحرب، بخاصة فرنسا وروسيا. وعكست اتفاقية سايكس- بيكو حصيلة ما توصّلت إليه المفاوضات بين بريطانيا وفرنسا وروسيا. وأفصحت هذه الاتفاقية عن سياسة بريطانيا التي استهدفت تحقيق حد أدنى من التماسك في جبهة الحلفاء. تمّ تقسيم منطقة الهلال الخصيب، بين فرنسا التي حصلت على سورية ولبنان ومنطقة الموصل في العراق، وبريطانيا التي امتدت منطقة سيطرتها من الطرف الجنوبي لبلاد الشام مروراً ببغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سورية. وتم الاتفاق في الوقت ذاته على وضع فلسطين تحت إدارة دولية يتم تحديدها بالتشاور لاحقاً بين بريطانيا وفرنسا وروسيا.
تتعامل الأدبيات العربية مع اتفاقية سايكس- بيكو، باعتبارها الدليل الأوضح على وقوع العالم العربي في براثن مؤامرة كبرى من جانب قوى الاستعمار الغربي والصهيونية العالمية. غير أن المتأمل تفاصيل الأوراق التي تحتوي عليها هذه الملفات الثلاثة المشار إليها سرعان ما يكتشف أن بريطانيا لم يكن لها سوى هدف واحد، وهو كسب الحرب العالمية الأولى والحصول على أكبر غنيمة ممكنة من إرث الإمبراطورية العثمانية. ولأن بريطانيا شكلت مركز الثقل الرئيس في النظام الدولي في ذلك الوقت، فقد كان من الطبيعي حين اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914 أن تمسك بأهم خيوط اللعبة وأن ترسم بنفسها شبكة التحالفات التي تمكنها أولاً من الانتصار في هذه الحرب ثم من توسيع حدود إمبراطوريتها الاستعمارية إلى أوسع مدى تستطيع قوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية أن تصل إليه. لذا راحت الديبلوماسية البريطانية تتحرك في الاتجاهات كافة وتوزع مختلف أنواع الوعود والإغراءات، بصرف النظر عما قد يكون بينها من تناقضات، من دون التزام من جانبها بأي نوع من القيود أو المعايير الأخلاقية التي قد تعرقل مسيرتها نحو تحقيق الأهداف التي سعت إليها. فالحرص على تماسك تحالفها مع فرنسا دفعها إلى إبرام اتفاقية لاقتسام الأراضي التابعة للإمبراطورية العثمانية في المشرق العربي، والحرص على كسب ودّ الحركة الصهيونية دفعها لإصدار تصريح تعبّر فيه عن تعاطفها مع طموحات هذه الحركة وتعدها بتقديم كل عون ممكن لمساعدة اليهود «على إقامة وطن قومي لهم في فلسطين». والحرص على إرباك الصفوف الخلفية للقوات التركية في الجزيرة العربية دفعها للتنسيق مع الشريف حسين المتحالف مع التيار العروبي البازغ، في جهوده الرامية لإشعال ثورة ضد حكم الأتراك في شبه الجزيرة العربية والمشرق العربي، مقابل وعد بالمساعدة على إقامة دولة تحت قيادته (مراسلات حسين – مكماهون: 1916). ولحل الإشكالية الناجمة عن التناقض الظاهر في الوعود التي قطعتها على نفسها أثناء الحرب، راحت بريطانيا تتعامل مع الواقع كما أفرزته موازين القوى الجديدة التي أفرزتها تلك الحرب. ففرنسا والحركة الصهيونية كانتا بعد انتهاء الحرب وانهيار الإمبراطورية العثمانية في وضع يسمح لهما بإجبار بريطانيا على تنفيذ ما تعهدت به. غير أن الوضع اختلف بالنسبة إلى الشريف حسين الذي بدا واضحاً أنه كان الضلع الأضعف في مثلث التحالفات التي نسجت إبان الحرب. ولأن الوعود التي قدمت له تناقضت في بعض جوانبها مع تلك التي قدمت لكل من فرنسا والحركة الصهيونية العالمية، فقد كان من الطبيعي أن يعاد تفسيرها لغير مصلحته، خصوصاً أن الأسرة الهاشمية خرجت من الحرب ضعيفة، بل كانت على وشك خسارة دعائم سلطتها ونفوذها حتى داخل شبه الجزيرة العربية ذاتها. لذا لم يكن غريباً أن تسفر رياح التغيير عن نتائج كارثية، سواء بالنسبة إلى مستقبل العالم العربي بعامة، أو بالنسبة الى مستقبل فلسطين بخاصة. من أهم هذه النتائج:
1- إطلاق يد فرنسا في سورية ولبنان، وإطلاق يد بريطانيا في فلسطين وشرق الأردن والعراق.
2- إدراج «وعد بلفور» في صلب صك الانتداب الذي وقعته العصبة عام 1922 مع بريطانيا، بوصفها الدولة المنتدبة على فلسطين، ما أضفى عليه طابعاً دولياً لم يكن يحظى به وقت صدوره.
أما الحركة الصهيونية، فلم تنتظر صدور «وعد بلفور» كي تشرع في العمل على تحقيق حلمها بإقامة دولة لليهود في فلسطين. فالواقع أنها كانت قد بدأت فور انتهاء مؤتمرها التأسيسي في اتخاذ إجراءات عملية على طريق تحقيق هذا الهدف، بالعمل على ثلاثة محاور متوازية:
1- تدريب أكبر عدد ممكن من اليهود على أساليب الزراعة الحديثة، وتشجيعهم على الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها، والعمل على تذليل كل ما قد يصادفونه من عقبات تحول دون استقرارهم هناك.
2- تنمية الوعي القومي لدى اليهود المنتشرين في أنحاء العالم وتلقينهم أسس ومقومات الثقافة اليهودية، لتعميق مشاعر الانتماء لفلسطين عند اليهود باعتبارها وطنهم المفقود.
3- استخدام الوسائل المتاحة، لإقناع القوى المهيمنة في النظام الدولي بأهمية وفوائد المشروع الصهيوني.
وبنجاحها في استصدار «وعد بلفور»، ثم في إقناع الأطراف المشاركة في مؤتمر فرساي بضرورة إدماج هذا الوعد في صلب «صك الانتداب» على فلسطين، تمتعت الإجراءات الرامية لتأسيس «وطن قومي لليهود» بغطاء قانوني أضفى عليها «شرعية دولية» لم تكن تتمتع بها من قبل. وهكذا أصبح للحركة الصهيونية ظهير دولي جاهز ومستعد لحماية مشروعها الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، ويملك من الإمكانات المادية والمعنوية ما يجعله قادراً على تذليل العقبات التي تعترض طريقه، بصرف النظر عن مدى ما يتمتع به من مشروعية قانونية أو إنسانية.
اليوم، وبعد قرن من إبرام اتفاقية «سايكس- بيكو»، يكاد المشروع الصهيوني ينتهي من تحقيق أكثر أهدافه جنوحاً. أما المشروع القومي العربي فقد أوشك على الانهيار تماماً. فهل ما تعيشه المنطقة حالياً كان حقاً نتاج مؤامرة ضد العرب أم مؤامرة من العرب على أنفسهم؟