البؤس والحذاء والأسى/ الياس خوري

رأى الكثيرون في خطبة الحذاء التي ألقاها النائب اللبناني علي عمار مناسبة للتندر واختراع النكات، وبعدما أضيف إليها مشهد حي السلم في شقيه: الهجوم على حزب الله وزعيمه بسبب تهديم البسطات في الحي الشعبي ثم الاعتذار أمام الكاميرا وإعلان تقبيل الحذاء، تم تعميم حكاية الحذاء بشكل كاريكاتيري.

والحق أنني لم أجد في خطبة الحذاء ما يدعو إلى الضحك والسخرية، بل وجدت فيها ما يدعو إلى الأسى والخوف.

الأسى لأن لبنان يمر فعلا بمرحلة من البؤس السياسي والثقافي لم يعد علاجها ممكنا. وهذا البؤس له تجليات لا تُحصى، لكنه اجتمع في أسبوع واحد بشكل مذهل: المحاكمة الملهاة لحبيب الشرتوني، الاحتفال الفولكلوري بصدور الحكم بإعدام قاتل بشير الجميل، التصريح العفوي للسيد ة ستريدا جعجع عن بطولات زوجها في «دعوسة» أهل زغرتا، وأخيرا أتى خطاب النائب علي عمار ليعلن تجلّي مملكة الحذاء!

أسبوع واحد أعلن البؤس الشامل، ماتت الاصطفافات السياسية وانحل الخطاب الاستقلالي وتداعى الخطاب المقاوم واتخذت الأشياء شكلا واحدا اسمه العودة الشاملة إلى حظائر الطوائف المستبدة.

أما الخوف فناجم عن الشعور العام بأن الحرب الأهلية لا تزال في انتظار ضحاياها. صحيح أن الصحوة المارونية لا تزال تتعثر في صراعات زعماء قبائلها، وصحيح أيضا أن الشيعية السياسية لا تزال أسيرة المشروع الأكبر الذي لا يريد لبنان إلّا سدا احتياطا، لكن هذا الخطاب الاستبدادي الذي يخبّئ الجريمة لا يزال قادرا على أن يُخرج الأمور عن ضوابطها، خصوصا أن من ضبط لعبة الموت اللبنانية في الماضي، يجد نفسه محشورا في صراع غامض يلف المنطقة، وقد لا يتمكن من تهدئة الأمور إلى ما لا نهاية.

الحذاء ليس هو الموضوع. صحيح أن اللبنانيين أثبتوا قدرات هائلة على الابتكار، وربما كان تقبيل الحذاء أو الجلوس تحت «الصرماية» واحدا من أكثر ابتكاراتهم استفزازا، لكن المسألة لا تتجاوز البنية الرمزية التي تحملها استعارات اللغة. تقبيل الحذاء هو مجرد تطوير لبنية الدلالات الرمزية التي تستطيعها لغتنا العربية الجميلة. الحذاء وجميع مترادفاته في اللغة العربية التي تصل إلى الخمسين تقريبا كانت تُستخدم في العادة شتائم، كما أن الأسماء المتعددة من النعل إلى الصرماية إلى المشّاية إلى البُسطار إلى القبقاب إلى آخره.. ليست أدوات فخر، لكنها جزء من لغتنا اليومية التي دخلتها الكثير من الكلمات الأعجمية كالاسكربينة الإيطالية والصّندل اليونانية والسربوجة الفارسية. (نجد ثبتا لأسماء الأحذية في كتاب نجلا جريصاتي: «عديات وعديات»، دار قنبز بيروت 2009).

كما أن دخول الحذاء إلى الحقل السياسي البصري ليس جديدا، فهو تعبير عن الاحتقار ومثال ذلك الأحذية التي ارتفعت لضرب تماثيل صدام حسين المتهاوية، بُعيد سقوط بغداد، أو «الحذاء الطائر» الذي رمى به صحافي عراقي الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، وصولا إلى القباقيب التي افتتحت العصر المملوكي عبر استخدامها أداة لقتل شجرة الدر، وهناك أخيرا بُعدٌ ذكوري و«رؤيوي» أضافه ابن سيرين في كتابه «تفسير الأحلام» إلى الحذاء الذي حين يظهر في المنام فهو رمز للمرأة!

الجديد هو تقبيل الحذاء، قد يقول بعضهم إن هذه الممارسة ليست اختراعا لبنانيا لأنها مأخوذة عن ممارسات الشبّيحة في سوريا حيث كان يُطلب من المعتقلين الذين يتعرضون للتعذيب تقبيل أحذية الضبّاط أو الجنود قبل أو بعد تأليههم لبشار، أي أن فعل التقبيل كان إكراها، وجزءا من عملية التعذيب.

أما في لبنان فجرت مزاوجة الإكراه بالانتشاء، فتمت إزاحة المعنى السوري ليصير تقبيل الحذاء تعظيما للعظيم يتم بانتشاء صوفي، وهذا تجديد جذري في الدلالة، لم يسبقنا إليه أحد.

كيف نقرأ هذه الظواهر المترابطة، هل يكفي أن نقول إنها تعبير عن انحطاط شامل يضرب المشرق العربي، ويتحوّل في لبنان إلى فضيحة مستمرة لا تتوقف عن التوالد، أم نستطيع أن نقرأه بصفته المظهر الأقصى لواقع بدأ يأفل قبل أن يتبلور بديله؟

الانحطاط لا يحتاج إلى براهين، فهو منتشر في مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية كلها، كأن المتسلطين على هذه المرحلة هم مِن أهل الكهوف الذين خرجوا من كهوفهم وبقوا هنا لأنهم أضاعوا طريق العودة إليها.

الخروج من الكهف وإضاعة طريق العودة تبدو استعارة مطابقة. صديقي عمرو الذي روى لي هذه الاستعارة، وضع يده على جرح بلادنا الكبير ليس في لبنان فحسب بل في المشرق العربي بأسره.

مجتمع يعيش بلا خطاب سياسي- ثقافي، الخطب كلها هي بدل عن ضائع، وأصحابها يعرفون أن نصهم لا قوام له، النص الطائفي الديني لا يستطيع أن يشكل نصا جامعا في بلد صغير أثبتت الحرب أن من المستحيل تقسيمه. عاجزون عن تقسيم لبنان وعاحزون عن توحيده، لذا لا خيار أمامهم سوى تلبيد حياتنا بالغيبيات، فهناك من ينتظر عودة بشير أو من يرى في الجنرال أو في الحكيم بشيره من جهة، وهناك من يذهب إلى الفقيه علّ ولايته تعطيه المعنى من جهة أخرى، وهناك من ينتظر أن تنقلب الأمور بأعجوبة لمصلحته وإلى آخره…

يبدو هذا الانحطاط أبديا، لكن أبديته كاذبة خادعة، الشعور بأبديته ناجم عن أنه يحتضر على جثث الناس وأوجاعهم، الأوجاع تجعلنا عاجزين عن الرؤية، وتُعمي بصيرتنا.

هذا البؤس لا يدعو إلى الضحك لكننا نضحك، فالضحك قد يكون شكلا للعجز في لحظة نفد فيها الكلام.

والغريب أن هذه الدوامة الرمزية التي بدأت بمحاكمة الشرتوني ووصلت إلى ذروتها في الحذاء لن تتوقف، فالخيال الذي تتحلى به البنى الطائفية التي تعتقد أنها اعتلت منصة التاريخ، لا حدود له، وهي قادرة على إضافة تلاوين إليه إلى ما لا نهاية.

استمرار هذه الدوامة مشروط ببقاء الطبقة الحاكمة في السلطة وقدرتها على انتاج خطاب الفراغ السياسي.

لكن هذا النظام القوي يتهافت بسبب الجشع الذي قاد إلى دولة فاسدة مفلسة فاشلة.

الهيكل على وشك السقوط، هل يسقط الهيكل على رؤوسنا على شكل رقصة موت طائفية جديدة، أم أن هناك بديلا آن له أن يولَد؟

Related posts

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري