هنالك نظرية مستقرة في عقلية التيار العارم من النخب السياسية تقوم على ثيمة أنّ الاقتصاد الأردني لا يمكن أن يقوم ذاتياً، وأنّه ارتبط دوماً بمتغير آخر وهو “الدور”، مع اختلاف وتباين تعريف “نخبنا” لمفهوم الدور واتجاهاته وشروطه.
ومن رحم هذه النظرية انبثقت اليوم أغلب النقاشات الساخنة عن توقف المساعدات الخارجية وربطها بقضية الدور الإقليمي وتراجعه أو تغير شروطه، ومنها أيضاً تطفو على السطح في العادة “جدلية المؤامرة” عندما تتراجع المساعدات وتخرج هواجس “تجويع الأردن” كطريق لتنفيذ “مخططات خارجية”، ويبدأ شبح “الوطن البديل” يظلل “المناظرات الداخلية“!
لا يمكن أن أنفي ذلك بالكلية! فالموقع الاستراتيجي والدور الإقليمي هما “مدخلان” رئيسان، تاريخياً في المعادلة السياسية- الاقتصادية الأردنية، لكنّنا نتحدث اليوم عن بيئة متغيرة ومختلفة تماماً، إقليمياً ومحلياً، عن تلك التي نتحدث عنها خلال العقود الماضية، وعن نظام إقليمي تهاوى تماماً، ونظام إقليمي آخر يتشكّل، وعن دول تغرق في أزمات داخلية، وعن انهيار مفهوم “السيادة” بمعناه التقليدي، وعن منطقة تموج بملايين الهاربين واللاجئين، وتغص بالدمار، وعن تراجع قيمة النفط في الاقتصاد، وعن تحولات عميقة في سياسات أغلب دول المنطقة.
على الصعيد الداخلي تغيّرت المدخلات أيضاً كثيراً، لم تعد الدولة قادرة على استحداث الوظائف، وأصيب القطاع العام ببيروقراطيته العريضة بأزمات ومشكلات كبيرة، وهنالك فساد إداري يطلّ برأسه يمثّل خطراً حقيقياً، ومعدل مرعب من البطالة غير مسبوق، وتراجع هائل في معدل النمو الاقتصادي، بما لم يحدث خلال العشرين عاماً الماضية، واختلالات غير مبررة في سوق العمل، ومديونية قفزت كيلومترات طويلة عن الخطوط الحمراء، وعجز دائم.
هل يمكن أن نعيد التفكير، إذاً، بما يتجاوز منطق التلاوم الداخلي، وركل الكرة من الشعب إلى الحكومة والعكس؟ وهل يمكن أن نفكّر جيداً بمنطق “إن لم نساعد أنفسنا فلن يساعدنا أحد”! وهل آن الآوان أن نفهم جيداً أنّنا في “ربع الساعة” الأخيرة، قبل أن تقع المطرقة على الرأس، وتصبح المديونية متساوية مع الناتج المحلي الإجمالي، ونحن نتهرب من مواجهة الواقع بجدال بيزنطي داخلي، لن يحل مشكلاتنا الاقتصادية والمالية!
فلنقل ما نشاء عن أخطاء وخطايا الحكومات السابقة والحالية، ولنفكّر بمائة طريقة لمحاربة الفساد، ولنتناظر في المطلوب لاستعادة الدور الإقليمي بالاتجاه الصحيح، والإفادة من الموقع الجيواستراتيجي بصورة أفضل، ولتكن مؤامرة أو غيرها ما نتعرّض له، ذلك كله مهم، لكنّ الأهم اليوم هو أنّنا بحاجة فعلاً إلى إنقاذ اقتصادنا الوطني، وبالتالي مستقبلنا جميعاً، وقد وصلنا إلى حافّة الهاوية وإلى مرحلة صعبة!
كيف؟ نحن بحاجة اليوم إلى التفكير بصورة جدية بعقلية مختلفة، جميعاً؛ حكومة ومواطنين، وفي تحويل شعارات التشغيل بدلاً من التوظيف، والتدريب والتعليم المهني وإعادة هيكلة سوق العمل، وإنقاذ التعليم، والتفكير في المستقبل في مبدأ سيادة القانون الذي يحمي الاقتصاد والاستثمار، وفي مسؤولية القطاع الخاص، وفي ردم الفجوة الطبقية، وتجريم التهرب الضريبي وتفتيته، وإعادة النظر في سياسات حماية الطبقة الوسطى وتحقيق العدالة الاجتماعية بصورة أكثر جدية وواقعية.
اليوم نحن أمام مهمة إنقاذ وإعلان حالة طوارئ وطنية، ليست رسمية، بل ضمنية، بمعنى أن نفكّر كيف نخرج من المأزق ونبحث عن الاتجاهات المستقبلية المتاحة، ونفكّر فيما يمكن أن نفعله حقّاً، على مختلف المستويات، وإلاّ فلنجلس أعواماً أخرى نتلاوم ونشكو والمسار يمضي إلى الأسوأ!