المسألة الاقتصادية…. والافتراضات الواهمة /د. إبراهيم بدران

عروبة الإخباري – في الدراسة التي صدرت عن مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، كان الاستنتاج الرئيسي: «انه بعد 28 سنة على تطبيق برامج صندوق النقد الدولي، فإنها لم تحقق الأهداف المرجوة منها. والمقصود هنا أنها لم تحقق زيادة معدلات النمو الاقتصادي ولا تخفيض معدلات التضخم ولا معالجة الاختلالات الهيكلية المزمنة في الوضع المالي للدولة».
و يبدو أن جوهر المسألة الاقتصادية إما انها غائبة لدى الإدارات المتعاقبة، أو مشوشة أو شائكة التناول فتبتعد الإدارة عنها و عن أشواكها. فمنذ الأزمة الاقتصادية الأولى عام 1988،وانطلاق «برامج التصحيح المالي» التي اسمتها الإدارات خطأ «برامج الإصلاح الاقتصادي»، وحتى اليوم، صدرت بالإضافة إلى رسائل الملك الهامة والمتعددة بهذا الشأن، الكثير من الدراسات و التقارير و الخطط و الاستراتيجيات حول إصلاح الاقتصاد، و التحول الاقتصادي، والتنمية، والمحافظة على الطبقة الوسطى وتنمية المحافظات، ولكن الإدارة الرسمية كانت تركز طوال الوقت على المسألة المالية وعجز الموازنة باسم الإقتصاد، الأمر الذي نشر وعمق افتراضات خاطئة سنة بعد سنة، ما حجب الكثير من الحقائق الأساسية التي أدركتها وتعاملت معها الدول التي نجحت في الإصلاح والنهوض.

الأولى : إن المؤسسات الدولية والإقليمية، ايا كان اسمها وهويتها وبرامجها، لا تنشئ اقتصادات للدول، و لاتغير بنية الإقتصادات الوطنية،ولا تحول اقتصادا يعتمد على التجارة والخدمات إلى اقتصاد صناعي متقدم لديه منتجات عالية القيمة المضافة، ولا تنقلها من مرحلة إلى أخرى، قد يكون لها دور مساعد وميسر في جانب معين، إذا كانت البيئة مناسبة، وهناك خطة وطنية جادة شاملة وطويلة الأمد، وهذا ما تحتاجه البلاد . الثانية: أن صندوق النقد الدولي ليس مؤسسة اقتصادية بالمعنى الدقيق، انه بنك للإقراض وميزانيته من الدول المشاركة فيه، وكمؤسسة مالية صرفة حريص على أن يضمن استرداد أمواله من المقترض، فيضع لذلك شروطاً، و يقترح على المقترض بدائل تضمن توفير الأموال اللازمة لسداد القروض، أما السياسات الاجتماعية و الاقتصادية و الإجراءات المالية فهي مسؤولية الدولة المقترضة أو المستدينة .الثالث: إن الصندوق لا يذهب إلى الدول لاقراضها، بل أن الدول التي تعاني ميزانيتها من عجز أو نقص تذهب إلى البنك للاقتراض لتغطية هذا العجز.وهذا مقبول في حالات طارئة . أما لماذا تسارع بعض الدول إلى الإستدانة باستمرار والإقتراض في كل مناسبة؟؟ لأن ذلك أسهل وسيلة لتغطية الفشل في الإدارة الاقتصادية وعدم الاستعداد للدخول في متاعبها، ومع الزمن يصبح الاقتراض هو النمط السائد والثقافة الرسمية، ويتأقلم المجتمع مع كل ما يستدعيه الاقتراض من متطلبات، وفي مقدمتها المزيد من الضرائب والرسوم سنة بعد سنة، وبالتالي ارتفاع المديونية كما حصل في اليونان و مصر و بلدنا العزيز، حتى وصلت المديونية لدينا 29 مليار دينار أو 95% من الناتج المحلي، ما يتطلب تسديد فوائد سنوية تقترب من 1200 مليون دينار يدفعها المواطن بشتى الطرق والمداخل. الرابع: على الرغم من إن المسألة الاقتصادية هي ليست المسألة المالية،إلا أن الإدارات تتجه دائماً إلى الخلط لاسترضاء الرأي العام، صحيح أن هناك تداخلا وترابطا بين المالي والإقتصادي،ولكن لكل منهما مسار مختلف . فالمسألة الاقتصادية أساسها الانتاج.. ثم الانتاج.. ثم الانتاج ..وبقيمة مضافة عالية ومدخلات علمية وتكنولوجية مميزة. ويقوم الانتاج على المشاركة المجتمعية و الاستثمار المباشر في المشاريع الإنتاجية، و ليس في شراء ما هو موجود من أسهم أو عقارات أو مرافق أو مصانع. أما المسألة المالية فهي التعامل بالمال و تدبير المال سواء بالمساعدات أو المنح أو القروض أو ببيع الموجودات والممتلكات، وهو ما تفعله للاسف الحكومات المتعاقبة. المسألة الاقتصادية تتطلب العمل والجهد والأبداع والتجديد و الدعم من القوى السياسية و البرلمان و المجتمع، والتضحية من الجميع و في المقدمة الجهاز الرسمي، في حين أن المسألة المالية تتطلب السياسة والكياسة لاقناع المقرضين والمانحين وتتطلب العلاقات الدولية، و طمأنة المواطنين وهذا ما اتجهت اليه الإدارات في الدول العالية المديونية. الخامسة: إن العمل الاقتصادي يتطلب تفعيل كافة نشاطات الدولة والمجتمع، ويتطلب الإدارة الملتزمة،والموظف النزيه الأمين على المصلحة العامة، المخلص في العمل .ويتطلب تطوير التربية و التعليم و التدريب وتحديثها، وتأصيل ثقافة العمل و الإنتاج والاتقان، والالتزام والصدق والأمانة والنزاهة على المستوى الفردي والمؤسسي و المجتمعي، وتفعيل مرونة المجتمع أزاء التغيرات المطلوبة . وهذه كلها مفردات شاقة وطويلة الأمد من مسؤولية الدولة و الأحزاب و الجامعات و منظمات المجتمع المدني و الإعلام و المثقفين. والأسهل منها في نظر الإدارات الخروج للاقتراض أو المساعدات، ويبقى كل شيء على حاله. وتبقى الحكومة صاحبة الكلمة العليا لأنها هي التي تؤمن الأموال وهي التي تتعامل مع مؤسسات الإقتراض الدولية والمانحين الدوليين سواء كان الموضوع عجزاً في الموازنة أو إنشاء طريق. وهكذا لا يشعر المجتمع بالعبء مباشرة ولا يشارك في صنع القرار. السادسة: إن الإدارة الحكومية تضيع الفرص وتفاقم الأزمات حين تضع كل اهتمامها في المال وتهمل الاقتصاد. إن الإصلاح المالي بهدف تخفيض العجز في الموازنة،لا يحل أزمة البطالة،ولا يضائل مساحات الفقر، ولا يعالج مشكلات الإنتاج، ولا ينمي الأرياف و البوادي، و لا يغير من سلوكيات المجتمع، و لا يزيد من متوسط دخل الفرد.
هذه حقائق يتم التذكير فيها في كل مناسبة، و أحيانا تبدو معادة، وهي من ابجديات إدارة الدولة. ولكن ثقافة المساعدات والمنح وسهولتها النسبية وعدم الرغبة في التعامل مع تفاصيل الواقع تصرف الإدارات عن أبسط مداخل العمل الاقتصادي المحلي مثل: حل مشكلات الشركات المتعثرة،ومساعدة المصانع التي على وشك الإغلاق أن تعود وتفتح أبوابها،و الشروع في صناعات تكميلية و إخرى إحلالية . حتى بنك الانماء الصناعي، تم بيعه و تجاهلت الحكومات ضرورته و حيويته للمشاريع القائمة والجديدة. وبدلاً من ذلك تم فتح باب الإستيراد على مصراعيه، وزاد الإعتماد على الغير،حتى لو كان يفيض لؤما و غدرا مثل اسرائيل و إتفاقية الغاز. بل والقفز إلى مشاريع ضخمة غير مبررة فنياً و لا مجدية اقتصادياً أو إستراتيجيا أو مائيا أو أمنيا، مثل المحطة النووية، وسيتم ذلك من خلال مزيد من الاستدانة بالمليارات، ومع هذا أخذت «الإدارة» تشيع بأن المحطة النووية ستكون «نقلة اقتصادية وتكنولوجية نوعية»، و هذا ما لم يحدث في أي بلد في العالم.
. والسؤال الجوهري : لماذا تواصل الإدارات المتعاقبة على هذا النهج الذي يتسم بالعقم، والفشل وتتشبيك الأزمات ؟ الإجابة الصريحة هي: «أن ذلك يعود إلى نمط الحكومات، وهي حكومات « فردانية «(مع بالغ التقدير)، مؤلفة من أفراد مع الاحترام الكامل لهم، لا يجمعهم فكر أومسار أو برنامج أو رؤية، ولذا فمن الصعب على «الحكومات الفردانية» أن تضع خططاً اقتصادية، وإذا وضعتها يصعب عليها تنفيذها، ويثقل عليها الإصطدام بأصحاب المصالح، ولذا فهي في بحثها عن طريق السلامة، تركز غالبا على تسيير الأعمال، في حين أن الحكومات المدعومة أو المؤلفة من أحزاب لها برامج اقتصادية واجتماعية معلنة،ولها دعم برلماني وشعبي قوي من خلال آليات الديمقراطية وصناديق الانتخاب والاحتكاك المباشر بالمواطن في كل مكان من خلال الأحزاب، هي التي تتبنى خططا اقتصادية طموحة، وتكون لديها الجرأة لتنفيذ البرامج المتعلقة بها، هكذا كانت سنغافورة و ماليزيا و كوريا و ايرلندا والهند وفيتنام و غيرها الكثير، فكل تغيير اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي أو تعليمي حقيقي تواجهه عقبات وتعترضه مصالح. والحكومة الفردانية لا تقوى على المواجهة و إنما الحزب و البرلمان يستطيعان، وهكذا فالاقتصاد يدور في حلقة مفرغة تضيق مع الزمن.
و أخيرا»هل يمكن الوصول إلى مستقبل أكثر إنجازا و أبعث على الطمانينة دون الانخراط الكامل الجاد في العملية الاقتصادية؟ ودون حكومات تحملها برلمانات وأحزاب وطنية قوية فاعلة ومشاركة بقناعة الدولة وإرادتها؟ متى ؟..ذلك هو التحدي.

Related posts

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري