مذكرات عمرو موسى : يختال بألوانه ولا يأتيه الخطأ/ حسن نافعة

أسباب عدة دفعتني إلى الاهتمام بمذكرات عمرو موسى، فإلى جانب الاعتبارات المهنية والأكاديمية التقليدية، أتاحت لي أجواء العمل العام فرصة الاحتكاك المباشر بصاحب هذه المذكرات، خصوصاً عقب ثورة كانون الثاني (يناير)، ما ولَّد لديَّ انطباعات عامة عن تلك الشخصية المتميزة والمثيرة للجدل في الوقت ذاته، لكنها لم تكن في تقديري كافية لإصدار حكم نهائي عليها. لذا بدت لي قراءة «شهادته» مسألة ضرورية لإلقاء الضوء على ما ظل معتماً من جوانب الصورة التي رسمتها عنه في مخيلتي. وما إن فرغت من الجزء الأول من المذكرات حتى توقعت أن تثير جدلاً صاخباً، وهو ما حدث بالفعل. غير أنني لاحظت أن معظم هذا الجدل انصرف إلى سفاسف الأمور، وبدا أقرب إلى تصفية حسابات منه إلى مناقشة جادة لعظائم الأمور، ومن ثم قررت إرجاء تعليقي إلى ما بعد هدوء العاصفة.

لم يكن عمرو موسى مجرد وزير لخارجية مصر لعشر سنوات متصلة، أو أميناً عاماً لجامعة الدول العربية لفترة مماثلة، وإنما كان أيضاً أحد المرشحين الأقوياء لرئاسة مصر خلفاً لرئيس كان موسى وزيراً لخارجيته قبل أن تطيح الرئيس حسني مبارك ثورة شعبية هائلة، كما كان موسى رئيساً منتخباً للجنة الخمسين التي تولت صياغة دستور مصر الحالي. ولأن جملة المناصب التي شغلها والأدوار التي لعبها على مدى الأعوام الثلاثين الماضية تبدو في بعض جوانبها على الأقل غير متسقة، تبدو الحاجة ماسة إلى حوار جاد حول روايته لأحداث تلك الفترة الحساسة من تاريخ مصر والعالم العربي يستهدف جلاء حقيقة ما جرى واستخلاص دروس تفيد في إخراج الأمة من مأزقها الراهن.

إن صدقية أي مذكرات شخصية، خصوصاً إذا كانت لشخصية سياسية كبيرة في حجم عمرو موسى، تتوقف في تقديري على مدى ما يتمتع به صاحبها من أمانة وشفافية عند معالجته جملة من المسائل التي ينبغي تناولها في المذكرات، وهي مسائل يمكن توزيعها على ثلاثة محاور: 1- بيئته التي نشأ وتربى وقضى فيها مرحلتي الطفولة والشباب، علاقته بأسرته وأصدقائه، والعوامل التي أثرت على تكوينه النفسي والفكري في تلك الفترة المبكرة من حياته. 2- رؤيته أداءه المهني، ولعلاقته بزملاء العمل وبالأشخاص الذين لعبوا دوراً مؤثراً في مسيرة حياته الخاصة والعامة. 3- روايته الخاصة لأهم الأحداث التاريخية التي عاشها وتفاعل معها سلباً أو إيجاباً وما إذا كانت هذه الرواية حريصة على استجلاء الحقيقة بأكثر من حرصها على تضخيم دور صاحبها أو تبرير مواقفه.

ولأن المقام لا يتسع في مثل هذا الحيز المحدود لمناقشة تفصيلية لجميع القضايا التي تستحق التعليق، فسأكتفي هنا بإجمال أهم ما ورد من معلومات ومواقف في الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى، من دون تعليق من جانبي إلا في أضيق الحدود، آملاً بأن تتيح هذه الطريقة في العرض والتحليل الفرصة أمام القارئ لكي يشكل رؤيته الخاصة بنفسه، سواء أكان اطلع على هذا الجزء أم لم يطلع عليه بعد.

في ما يتعلق بالمحور الأول، يمكن القول إن عمرو موسى امتلك ما يكفي من الشجاعة للإفصاح عن جملة من المعلومات الشخصية التي قد يتردد البعض في البوح بها. من هذه المعلومات: 1- زواج والده من سيدة فرنسية قبل ارتباطه بوالدته المصرية، وهو الزواج الذي أثمر طفلاً اسمه «علي»، أو بالأحرى «بيار»، لم يلتق به عمرو إلا بعد ما يقرب من ربع قرن. 2- وفاة والده وهو في سن مبكرة، وتكفل جده لوالدته بتربيته. 3- زواج والدته وهو في سن الصبا أو الشباب. 4- رسوبه في الصف الأول الثانوي، وحصوله في الثانوية العامة على مجموع أقل من 60 في المئة، ورغبته في الالتحاق بالجامعة الأميركية، قبل أن يلتحق فعلاً بكلية الحقوق بناء على رغبة والدته أو إصرارها، وبعد لقائه الشيخ محمد أبو زهرة، وكيل الكلية، ونجاحه في إقناعه باستثنائه من شرط المجموع. 5- زواجه من السيدة ليلى بدوي، ليس تتويجاً لقصة حب ملتهبة، وإنما بترشيح من ثلاثة من أقاربه وأصدقائه هم: ابن عمه مصطفى الأنور، والسفير أشرف غربال، ومحمد البرادعي، ومن دون تنسيق مسبق بينهم. 6- حرصه على استمرار العلاقة طيبة مع أسرة أشرف مروان على رغم طلاق كريمة الأول من نجل الثاني. يلفت النظر هنا أن أغلب هذه المعلومات الشخصية وردت في سياق الحرص على إبراز السمات المميزة لشخصية صاحبها. فعمرو موسى الطفل أحب والدته وجده اللذين تكفلا بتربيته، واحترم والده الذي توفي وعمرو في التاسعة من عمره واحتفظ بذكرى طيبة عنه، وعمرو موسى المراهق تعامل بالمقدار ذاته من الاحترام مع زوج والدته الذي كان كريماً معه، وعمرو موسى الشاب المتخرج حديثاً لم يكن جاداً ومتفانياً في عمله فقط ولكنه كان أيضاً شهماً سعى بإصرارٍ للبحث عن أخيه غير الشقيق وحرص على تنمية وتعميق العلاقة معه، وعمرو موسى الرجل هو ذلك الأب الحداثي الذي لا يتدخل في شؤون أولاده ويترك لهم حرية تقرير مستقبلهم بعد توفير أرقى مستويات التعليم والبيئة الأسرية الملائمة لتنمية نفسية واجتماعية وفكرية متوازنة.

وفي ما يتعلق بالمحور الثاني، بدا عمرو موسى شديد الحرص على ذكر زملائه في العمل بالخير والإشادة بهم. ومع ذلك، يلاحظ أن تقييمه بعض الشخصيات المعروفة جاء مثيراً للدهشة حيناً وينطوي في أحيان أخرى على إيحاءات تكاد تلامس حد التشهير المتعمد، فالسفير وفاء حجازي «من ذوي الميول اليسارية»، وأسامة الباز «شخصية غريبة الأطوار، لم يحصل على شهادة الدكتوراه لكنه كان يحب أن يُنادى بهذا اللقب، لم يكن عنده خط سياسي محدد، وليس لديه مانع من إجراء تباديل وتوافيق لتحقيق ما يراه الرئيس، وثيق الصلة ببعض رجال الأعمال والفنانين الذين تسببوا في انتشار إشاعات مغرضة حوله… إالخ». وأحمد ماهر «زومبجي»، بحسب وصف الرئيس مبارك إياه، وحين كان وزيراً للخارجية أخفى عن مبارك مذكرة كان عمرو موسى كتبها حين كان أميناً عاماً لجامعة الدول العربية وأرسلها لجميع الملوك والرؤساء العرب، ومع ذلك رفض موسى أن يشي به عند مبارك. أما زكريا عزمي، فهو «رجل سطع نجمه مع تراجع دور أسامة الباز وكان يدير الأمور بكفاءة عالية وتفان كامل للرئيس».

وفي ما يتعلق بالمحور الثالث، يمكن القول بإيجاز، نظراً إلى ضيق المساحة المتبقية، أن عمرو موسى بدا حريصاً على: 1- إبراز جذوره السياسية والفكرية الوفدية، وأصوله الطبقية القريبة من الشرائح الاجتماعية العليا في العهد الملكي، «رغم عدم مساس قوانين الإصلاح الزراعي بأملاك أسرته». 2- التحقير من شأن الحقبة الناصرية، حيث بدا حريصاً على تسريب معلومة، يصعب التثبت من صحتها، تغير الصورة التي استقرت في أذهان الجماهير عن تقشف وبساطة حياة عبدالناصر حين أشار إلى تكليفه أثناء عمله في سفارة برن «بتسليم رجل ضخم الجثة نوعاً معيناً من الطعام الخاص بريجيم عبدالناصر»، ومقتنعاً بأن تظاهرات 9 و10 حزيران (يونيو) «كان فيها شيء من الترتيب»، وبأن هزيمة حزيران (يونيو) غيرت مواقف كثيرين وجعلتهم «ناقمين على النظام». 3- إظهار إعجابه المتحفظ أو الملتبس بشخصية السادات الذي «كان ثعلباً مدرباً لكنه كان أيضاً مغامراً»، معتبراً قراره بالتفاوض المباشر مع إسرائيل «توارُد خواطر»، على رغم انتقاده طريقة السادات في إدارة السياسة الخارجية. خطأ السادات الأكبر، من وجهة نظر موسى، كان «عدم اقتران إنجاز تشرين الأول (أكتوبر) بإصلاح واع وشامل للأمور في مصر»، أما سياساته الاقتصادية والاجتماعية، والتي كانت بمثابة ثورة مضادة على التوجهات الداخلية للحقبة الناصرية، فلم يوجه إليها موسى أي انتقاد. 4- شعور واضح بالامتنان تجاه الرئيس مبارك الذي كان «شخصية لطيفة محببة، متواضعاً في طموحاته، وظل يقبض بقوة على النظام حتى العقد الثالث من حكمه». مشكلة عمرو موسى لم تكن إذن مع مبارك شخصياً وإنما «مع قادة النظام حوله ممن لم يشعروا بالارتياح لشخصية وزير الخارجية ولا للشعبية التي حققها داخلياً وعربياً وخارجياً». 5- الحديث المفصل والمسهب عن دوره «المقتحم» وإنجازاته الكثيرة في مجال إعادة هيكلة وزارة الخارجية، ومد الجسور مع العالم العربي، والدفاع عن القضية الفلسطينية، ومحاصرة إسرائيل ديبلوماسياً عبر مبادرة إخلاء منطقة الشرق الوسط من أسلحة الدمار الشامل… إلخ.

حين فرغت من قراءة «كتابيه»، الاسم الذي وقع عليه اختيار عمرو موسى عنواناً لمذكراته والكاشف في حد ذاته عن جانب من سمات شخصيته الفريدة، تشكلت في مخيلتي صورة طاووس يختال بألوانه. ولأن الواقع الذي تعيشه مصر والأمة العربية بدا لي مزرياً إلى درجة مرعبة، خطر في بالي سؤال: هل نجح عمرو موسى، وزير خارجية مصر وأمين الجامعة العربية والناشط السياسي، وفشلت مصر والعرب؟ سؤال سيظل معلقاً حتى تكتمل ثلاثية «كتابيه». لذا نشكره على الجزء الأول وننتظر الجزءين الثاني والثالث.

Related posts

كلفة الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي* جواد العناني

هل ستؤثر إدارة ترامب على مسار حروب نتنياهو؟* د. سنية الحسيني

السمهوري: رسالة واضحة للرئيس ترامب بأهمية دعم حق فلسطين بالحرية والإستقلال والإلتزام بمبادئ الامم المتحدة وتنفيذ قراراتها